عيد العنصرة

       عيدُ العنصرة هُوَ آخِرُ أعيادِ التّدبيرِ الإلهيّ. غايَةُ التجَسُّدِ الإلهيِّ قد بَلَغَتْ ذُرْوَتَها يومَ الخمسين. ما بُدِئَ بِهِ في بيتَ لحمَ كَمَلَ في العِلِّيَّةِ. لقد وُلِدَ المسيحُ في بيتَ لحمَ لِتُولَدَ الكنيسةُ في العِلِّيَّة. خُلِقَ الإنسانُ أوَّلاً في اليومِ السّادس، وتجدَّدَ خَلْقُهُ بِتَجَسُّدِ الكلمة، وَأُتِمَّ خَلْقُهُ بالرُّوحِ القُدُسِ يومَ العنصرة.
       لقد اعتَمَدَتِ الكنيسةُ بالرّوحِ القدس والنّار، يوم العنصرة، أمّا نحنُ فَنُولَدُ بالمعموديّةِ بالماءِ والرُّوح. الكنيسةُ أُمٌّ روحيّةٌ، خَلَقَها المسيحُ بِتَجَسُّدِهِ وأَظهَرَها في العالَم، وأَخْصَبَها بِالرُّوحِ القُدُس يومَ الخمسين، وهيَ تَلِدُ بَنِينَ مُقَدَّسِين مِن طبيعتِها المقدَّسة. هِيَ والِدَةٌ وَنحنُ مَولُودُون. هِيَ احتاجَتْ إلى النّارِ في معموديَّتِها لأنَّ النّارَ تَرمُزُ إلى الطَّبيعةِ الإلهيّة، حيثُ أنّها تُحرِقُ كُلَّ ما هُوَ أَرضِيٌّ وَتُبِيدُه. وَمِن هُنا إنَّ الكنيسةَ ذاتُ طبيعةٍ إلهيّةٍ مَحْضَة، وَتالِيًا خالِدة. أمّا نحنُ فنحتاجُ إلى الماءِ في معموديَّتِنا، لأنَّ الماءَ رمزُ الطّبيعةِ البشريّةِ، إذْ لا شيءَ على الأرضِ يُمكِنُ أن يحيا بدونِ ماء.
       نُزُولُ الرُّوحِ القُدُسِ على الرُّسُلِ، وتالِيًا على سائرِ البَشَر، لا يُلغي شَخصيّاتِهِم، بَل هُوَ يَعمَلُ مِنْ خلالِ إرادَتِهِم الذّاتيّة، وليسَ كأنّهم عبيدٌ أو آلاتٌ جامدة. عندما يملأ الرُّوحُ القُدُسُ إنسانًا ما، فإنّه يبقى حُرًّا، لا بَل يكتسبُ حُرِّيَّةً حقيقيّة. يقول الرّسول بولس: "أَرواحُ الأنبياءِ خاضِعَةٌ لِلأنبِياء" (1كور 32:14)، ممّا يَعني أنّ النبيّ يَخضَعُ لِمَوهبةِ النِّعمةِ الّتي فيه، وهِيَ تَخضعُ لَهُ، أي أنّ حُرّيّةَ الإنسانِ لا تُبطَلُ، وَقوى عَقلِهِ لا تُخضَع.
       عندَما نعتمدُ، يَخلُقُ الرُّوحُ القُدُسُ لَنا جَسَدًا جديدًا غيرَ منظور، على صُورَةِ جَسَدِ المسيحِ بعد القيامة، الّذي دَخَلَ والأبوابُ مُغلَقة. يُعطِينا كُلَّ ما للمسيح، لِنَصِيرَ مُناسِبِينَ للاتّحادِ الدائمِ فيه.
       وَهُوَ يُعطِينا المَواهب، وهيَ مواهِبُ كثيرةٌ جدًّا ومتعدِّدة. عَمَلِيًّا، نحنُ ننالُ هذه المواهِبَ بمسحةِ المَيرون. ففي المعموديّةِ الرُّوحُ القُدُسُ يُطهِّرُنا وَيَلِدُنا، وَفي المَيرُونِ يُقَدِّسُنا وَيَمنَحُنا المواهِبَ لِنَنمُوَ رُوحِيًّا، ويَجعَلُ المسيحَ حَيًّا وعاملاً فينا.
       فَمِنْ جِهَةٍ، يُوَحِّدُ الرُّوحُ القُدُسُ البَشَرِيَّةَ كُلَّها في جِسمٍ واحد، مُزِيلاً كُلَّ الفَوارِقِ والحَواجز؛ وَمِن جهَةٍ ثانية، يَهَبُ لِشَخصٍ ما لا يَهَبُهُ لآخَر، حتّى يصيرَ مِن هذه المُتَمايِزاتِ وحدةٌ أيضًا، وَحدةُ عَمَلٍ وَبُنيانٍ تَهدُفُ إلى اكتِمالِ الجَسَدِ الواحدِ السِّرِّيّ، أَي جَسَدِ الكنيسة.