الانطلاقُ مِنَ الذّات

       يقول الرّسُولُ بولسُ: "لِيَ اشتِهاءٌ أنْ أَنطَلِقَ فأكونَ مَعَ المسيح، فذاكَ أفضلُ جِدًّا". فهل تستطيعُ أنتَ أن تقولَ ذلك؟ إذًا عليكَ أن تنطلقَ أوّلاً من ذاتِك الّتي تَعبُدُها بدلاً من الله. عليكَ أن تنطلقَ مِن ذاتِكَ الّتي تُعظِّمُها وَتُمَجِّدُها باستمرارٍ أمامَ الآخَرِين.
       هذا العالَمُ يُغرِيكَ بالتّمجيد.. يأتِيكَ المديحُ مِن كُلِّ جِهَةٍ.. صادِقًا وغَيرَ صادق.. فَهَل يَعني لكَ ذلكَ شيئًا؟ هل يُصيبُكَ بالغُرُور؟ هل تَقبَلُ المديحَ من الآخَرِين؟ إذًا فأنتَ تَقبَلُ مَجدًا لِنَفسِكَ، والمجدُ لله وحدَه، لأنَّ الله هُوَ خالقُ الكَونِ ومصدرُ جميعِ الكائنات، ولأنّه الوحيدُ الواجِبُ الوجود، والأزليّ، والقادرُ على كُلِّ شيء..
       تمجيدُ الذّاتِ، أو قبولُ التّمجيدِ من الآخَرِين، هِيَ الخطيئةُ الّتي سقطَ فيها آدم، إذْ لَم يكتَفِ بِما وهبَهُ اللهُ مِن نعيم، بل أرادَ أن يَكبُرَ حتّى يصيرَ مثلَ الله.
       ثُمَّ.. مَن أنتَ لِتَتَمَجَّد؟ هل نَسِيتَ ضعفاتِكَ وَنقائصَكَ وَعُيُوبَكَ وَخطاياك؟ وهل نَسِيتَ أنَّ كُلَّ أمجادِ هذه الدُّنيا لا تَصحَبُكَ بعدَ الموت، ولا تَقفُ معكَ يومَ الدّينونةِ أمامَ الدّيّانِ العادل؟ إنّه لا يتأثّرُ بِرأيِ النّاسِ فِيك..
       وَلَرُبَّما قُلتَ في نفسِكَ: ولكنْ، كيفَ يقدرُ الإنسانُ أن يتهرَّبَ مِن مديحِ النّاسِ وتملُّقِهِم؟!
       وَلِلجوابِ على هذا التّساؤُل، ثمّةَ اقتراحاتٌ عِدَّة:

  • كُلَّما أتاكَ المديح، تَذَكّرْ خطاياك وَقُلْ في داخِلِكَ: أنا لستُ مستحقًّا لهذا المديح، لا بَل أنا مستحقٌّ للتَّوبيخِ على خطايايَ الكثيرة.
  • لا تُسَرَّ بِمديحِ النّاسِ لَك، لِئَلاً تَستَوفِيَ أَجْرَكَ على الأرض، فَتَخسَرَ أَجرَ السّماء. وتكون قد أضَعتَ إكليلكَ بِثَمَنٍ بَخْس. فعليكَ بالحَرِيِّ أن تَحزَنَ مِن مديحِهم لأنَّهُ يُضَيِّعُ عليكَ الأَجْرَ والإكليل.
  • أُنسُبِ المجدَ لله الّذي لَهُ وحدَهُ ينبغي التّمجيد. وتذكَّر قَولَ الرَّبّ: "فَلْيُضِئْ نُورُكُم قُدّامَ النّاس، لِيَرَوا أعمالَكُم الصّالحة، وَيُمَجِّدُوا أباكُمُ الّذي في السّماوات" (مت 16:5). وأنشِدْ معَ صاحبِ المزامير: "لا لَنا يا رَبُّ، لا لَنا، بَلْ لاسمِكَ القُدُّوسِ أعطِ المجد" (مز 1:115).
  • أَخبِرْ مَن يَمدَحُكَ أنَّ الله هُوَ الّذي فَعَلَ هذا الأمرَ الّذي يستحقُّ المديح.
  • إذا كُنتَ في جلسةٍ، ووجدتَ أنَّ الحديثَ سَيَؤُولُ إلى مَدْحِكَ، حاوِلْ أن تُغَيِّرَ مَجرى الحديث.
وبالإجمال، كُن دائمًا على يَقِينٍ مِن أنَّكَ إذا طَلَبتَ مجدًا لِذاتِكَ فإنّكَ تخسرُ ذاتَك، وإذا تعفَّفْتَ عن طَلَبِ هذا النَّوعِ من المجد، مُتَّضِعًا أمامَ اللهِ القدير، وَرافِعًا إلَيهِ كُلَّ الشُّكرِ وَكُلِّ التّقدير وَكُلَّ التّعظيم، فإنَّكَ تَكُونُ قريبًا من القدّيسِينَ الَّذينَ أرضَوا الله، لا بَل مُتَشَبِّهًا بالرَّبِّ يَسُوعَ المسيحِ نفسِه الّذي قال: تَعَلَّمُوا منّي فإنّي وَديعٌ وَمُتَواضعُ القلب، فَتَجِدُوا راحةً لِنُفُوسِكُم. آمين.