الخروج من العالَـم

       عندما يخرج الجنين من بطن أمّه ينزعج، ظانًّا أنّه ذاهبٌ إلى مكانٍ مجهولٍ سيّئ، وكذلك عندما تغادر النفس الجسد وتخرج من هذا العالم، فإنّها تنزعج ظانّةً أنّها ذاهبةٌ إلى مكانٍ مجهولٍ سيّئ. ولكنّ الواقعَ أنّ الطفلَ يصيرُ إلى مكانٍ أفضل، وينالُ بَدءًا جميلًا لحياتِه. وكذلك عندما تغادرُ النَّفْسُ البشريّةُ هذا العالَم، فإنّها تصيرُ إل مكانٍ أفضل، وتنالُ بَدءًا جميلًا لحياةٍ فُضلى، غيرِ قابلةٍ للفساد.
كيف يخرج الجنينُ من بطن أُمّه؟ عُريانًا.. هكذا تخرج النَّفْسُ من الجسد.
ولكن.. ما الفرقُ بين النّفوسِ النّقيّةِ والنُّفوسِ المدنّسة بالخطايا؟ هل تتساوى في الخروجِ من هذا العالم؟
يَكمُن الفَرقُ في الاستعداد، خلالَ فترةِ الحياةِ على الأرض. فكما أنّ الجنينَ لا يقدرُ أن يعيشَ إن غادرَ الرَّحِمَ قبل أن يكتمل، هكذا لا تقدرُ النَّفْسُ أن تكونَ في شركةٍ مع الله، إن غادَرَت هذه الحياةَ قبلَ أن تُكمّلَ جهادَها للاتّحاد مع الله عن طريق الأعمال الصالحة واقتناء الفضائل.
وَمِن هُنا كانت أهمّيّةُ تغليبِ الحياةِ الروحيّةِ على الحياةِ المادّيّة، أي تغليب حياةِ المسيح المستترة فينا على حياةِ الإنسانِ العتيق، إنسانِ الخطيئة. علينا، قبلَ أن نُغادِرَ إلى الملكوت، أن نتعلَّمَ لُغتَه.
أمرٌ في غاية الأهمّيّة يساعدُنا على الجهادِ وعدم الفتور، ألا وهو أن نتذكّر محبّة الله لنا نحن البشر، وأنّه يخصُّنا، دون سائر الخلائق، بالحوار والتفاعل والعمل المشترك. إنّه يُصغي لنا وَحْدَنا.. ونحن، وَحْدَنا، قادرونَ على عبادتِه.. ولأجلنا، وحدَنا، تَجسّد.
أمرٌ آخَر يُساعدُنا لتفضيلِ السماويّات على الأرضيّات، أن نذكّر أنفُسَنا يوميًّا بحتميّةِ الموت وعدم إمكانِ الفرارِ منه. لا بل علينا أن نتوقّعَه في كلّ لحظة، لكي نشعر بِدُنُوّ وقت الدينونة، والإحراج الكبير الّذي سيكون لنا أمامَ عرشِ الديّان.
وختامًا، نُورِدُ مقطعًا من كتاب الفيلوكاليا: "عندما تنامُ على سريرِك، تذكّرْ بركاتِ الله وعنايتَه بك، واشكُرْهُ عليها. هذه الأفكار تُسبّبُ لكَ فرحًا روحيًّا، وتجعلُ نومَ جسدِكَ سُمُوًّا لِنَفْسِك، وإغلاقَ عينَيكَ إدراكًا لله، وَصَمْتَكَ تمجيدًا لله القديرِ من كُلِّ القلبِ وَكُلِّ القُوّة. لأنّه عندما لا يوجد شرٌّ في الإنسان، فإنّ الشُّكرَ وحدَه يُرضي الله أكثرَ مِن تقدِماتٍ ثمينة، هذا الله له المجدُ إلى دهر الدّهور. آمين."