ها العذراء تحبل

محاضرة ألقيت في رعية كفرحباب بتاريخ  17 تشرين الثاني 2023

ها إنّ العذراءَ تَحبَل
*الأب نقولا مالك*
نقرأ في سِفرِ إشَعيا:
ثُمَّ عادَ الرَّبُّ يُخاطِبُ آحازَ ثانِيَةً قائِلاً: «اطْلُبْ عَلامَةً مِنَ الرَّبِّ إِلَهِكَ، سَواءٌ فِي عُمْقِ الْهاوِيَةِ أَوْ فِي ارْتِفاعِ أَعْلَى السَّماوات». فأجابَ آحازُ: «لَنْ أَطْلُبَ وَلَنْ أُجَرِّبَ الرَّبَّ». عِنْدَئِذٍ قالَ إِشَعْيا: «اسْمَعُوا يا بَيْتَ داوُدَ: أَما كَفاكُمْ أَنَّكُمْ أَضْجَرْتُمُ الناسَ حَتَّى تُضْجِرُوا إِلهِي أَيْضاً؟ وَلَكِنَّ السَّيِّدَ نَفْسَهُ يُعْطِيكُمْ آيَةً: ها العَذراءُ تَحبَلُ وَتَلِدُ ابناً، وَتَدعُو اسْمَهُ عِمّانُوئِيلَ. وَحِينَ يَعرِفُ أَنْ يُـمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ والشَّرِّ يأكُلُ زُبْداً وَعَسَلاً، لانَّهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ الصَّبِيُّ كَيْفَ يَرْفُضُ الشَّرَّ وَيَخْتارُ الْخَيْرَ، فإنَّ إِسْرائِيلَ وأَرامَ اللَّتَيْنِ تَخْشَيانِ مَلِكَيْهِما تُصْبِحانِ مَهْجُورَتَيْنِ. (إش 7: 10 - 16)
                    
عام 930 ق.م. إثرَ وفاةِ سليمان الملك، إنقسمت مملكتُه إلى قسمَين: مملكة الشمال (إسرائيل) ومملكة الجنوب (يهوذا). مِن أنبياء الشمال: إيليا وأليشع وميخا. ومن أنبياء الجنوب إشعيا وإرميا.
النصُّ الذي بينَ أيدِينا من سِفر إشعيا الذي عاشَ الذي عاشَ في القرنِ السابع ق.م.
كانَ آحازُ مَلِكًا على مملكةِ الجنوب (يَهُوذا)، وكانت هذه المملكةُ تُواجهُ خطرًا مِن مَلِكِ الشمال (إسرائيلَ) الذي تحالَفَ مع ملكِ آرامَ ضِدَّها. الملكُ آحاز مُرتعبٌ من الخطرِ الوَشيك، ويخطّطُ للتحالُفِ معَ ملكِ أَشور ضِدَّ أعدائه.
كان دورُ إشَعيا النبيّ أن يُبَلِّغَ الملكَ رسالةً من الله أنّه لن يتخلّى عن شعبِه، رغم خطايا الملك، وأنّه باقٍ على وَعدِهِ لهم، وذلك بِقَولِه: "أُطلُبْ علامةً من الربِّ إلهِك...".
بِداعي محبّتِه يدعمُنا رغمَ خطيئتِنا؛ ولكي يُذكِّرَنا بِقدرتِهِ يُريدُنا أن نطلُبَ مِنّه علامةً (أعجوبةً) في الأرض أو في السّماء. العلامةُ في الأرض تكون على شكل زلزلةٍ أو اِنشقاق، كما حدثَ مع قُورَح وجَماعتِه، الذين تطاوَلُوا على موسى النبيّ ونصّبوا أنفسَهم كهنةً وهم لاويّون خدّامٌ للهيكل، فانشقَّتِ الأرضُ وابتلعَتْهم (عدد 31:16-33)؛ والعلامةُ في السَّماءِ تكونُ على شكلِ رُعُودٍ وبُرُوقٍ أو بَرَدٍ أو أمطارٍ، أو في الشمسِ والقمر، كما حدثَ معَ يَشُوعَ بنِ نُون عندما توقَّفَتِ الشمسُ وتوقّفَ القَمر إلى أن تنتهي المعركةُ بانتصار شعبِ الله (يشوع 12:10-13)
ولكنّ آحازَ كان قد قَسا قلبُه بسببِ خطاياه، فلم يَضَعْ ثِقتَهُ في الرّبّ بل بِمَلكِ أَشُور، ولذلك كان جوابُه: "لن أطلبَ ولن أُجرِّبَ الربّ". هنا استعارَ آحازُ كلامًا كِتابيًّا (لا تُجَرِّبِ الربَّ إلهَك)، ولكنْ لا عن ثِقةٍ بالله بل عن رغبةٍ في عدمِ التعامُلِ معه.
هذا الموقفُ يُظهِرُ لنا أهمّيّةَ الإيمانِ في حياتِنا وفي قراراتِنا المصيريّة، وفي مواجهتِنا للمواقفِ الصعبة. ولذلك، قبل هذه النصّ مباشرةً قالَ اللهُ على لسانِ إشَعيا النبيّ: "وإنْ لَم تُؤمِنُوا فلَن تَأمَنُوا" (إش 9:7). حِمايَتُنا تأتي من إيمانِنا بِوُعُودِ الله الصادقة، وبِقُدرَتِه اللامحدودة، ومحبَّتِه الكبيرة وحنانِه. أمّا إذا كُنّا مُنقادِينَ وراءَ خطايانا، فنفقدُ ثقتَنا بالله ونستعيضُ عنها بالاتّكالِ على البَشر.
قد يَفشَلُ الإنسانُ في الطَّلَب، عن ضعفِ إيمان، أو عن شعورٍ بالخطيئة والتقصيرِ الروحيّ، وَلكِنَّ الربَّ يُبادِرُ ويُعْطِينا بنفسِه آيَةً، ألا وَهِيَ: "هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ". "العذراءُ تَحبَل"، أي إنَّ اللهَ يقومُ بما يتجاوَزُ الإمكانات البشريّة. واسمُ المخلِّصِ الذي سيُرسِلُهُ إلينا "عِمّانوئيل" = الله معَنا، لكي يُطمئِنَنا أنّه سيخلِّصُنا من كُلِّ قُوّاتِ الظلام، وسيحملُنا معه إلى الأحضان الأبويّة.
       هذه النبوءةُ مِن أبرزِ نبوءاتِ العهدِ القديم عن مجيء المسيح (إش 14:7). ولأنّ معجزة الميلاد غريبةٌ، ومن الصعبِ تصديقُها عند كثيرين، مهّدَ اللهُ لها عن طريقِ عجائبَ وتنبُّؤاتٍ كثيرة.
- فاسمعوا حزقيال متنبِّئًا عن بتوليّة مريم: "ثُمَّ أَرْجَعَنِي إِلَى طَرِيقِ بَابِ الْمَقْدِسِ الْخَارِجِيِّ الْمُتَّجِهِ لِلْمَشْرِقِ، وَهُوَ مُغْلَقٌ. 2فَقَالَ لِيَ الرَّبُّ: «هذَا الْبَابُ يَكُونُ مُغْلَقًا، لاَ يُفْتَحُ وَلاَ يَدْخُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ دَخَلَ مِنْهُ فَيَكُونُ مُغْلَقًا" (حز 44: 1-2).
أعجوبة الولادةِ من بتولٍ هي برهان على أنّ المولودَ ليس مِن زَرعِ بَشَرٍ.. أنّه ليس من هذا العالم، بل هو ابنُ اللهِ المتجسِّدُ الآتي إلينا من الأعالي. لذلك سُمِّيَ "عِمّانُوئيل" الذي يعني "الله معنا".
- واسمعوا ميخا النبيّ يحدّد مكان وِلادةِ المخلِّص: "أمّا أنت يا بيت لحم أفراثا، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرج لي الذي يكون متسلّطاً على إسرائيل ومخارجُه منذ القديم منذ أيّام الأزل ” (مي 5: 2)."
- وانظروا إشَعيا متحدّثًا عن هدايا المجوس: "تَكْتَظُّ أَرْضُكِ بِكَثْرَةِ الإِبِلِ. مِنْ أَرْضِ مِدْيَانَ وَعِيفَةَ تَغْشَاكِ بُكْرَانٌ، تَتَقَاطَرُ إِلَيْكِ مِنْ شَبَا مُحَمَّلَةً بِالذَّهَبِ وَاللُّبَانِ وَتُذِيعُ تَسْبِيحَ الرَّبِّ” (إش 6:60)."
- أمّا إرميا فقد سبقَ أن رأى مجزرةَ قتل أطفالِ بيت لحم: "هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ، بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلاَدِهَا لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ” (إر 15:31)."
- وهوشعُ النبيُّ رأى الرجوعَ من أرضِ مصر: " لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَمًا أَحْبَبْتُهُ، وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي” (هو 1:11)."
 
       نصوصِنا الليتورجيّة غنيّةٌ بالإيضاحاتِ العقائديّة:
- إنَّ رَسمَ البكرِ العروسِ التي لم تعرفْ زواجًا قد تصوَّرَ وقتًا ما في البحرِ الأحمر. إذ إنّ موسى كان هناك للمياهِ مقسِّمًا، وأمّا هُنا فجبرائيل صار للعجبِ خادمًا. في ذلك الحينِ عبرَ إسرائيلُ العمقَ ولم تبتلَّ قدماه، والآنَ البتولُ ولدتِ المسيحَ خلوًّا من زرعٍ. البحرُ لبثَ غيرَ مسلوكٍ بعدَ اجتيازِ إسرائيل، والعادمةُ العيبِ لبثَت خلوًّا من فسادٍ بعدَ وِلادتِها عِمّانوئيل. فيا أيّها الإلهُ الأزليُّ الكائنُ قبلَ الأزل، الذي ظهرَ كإنسانٍ، ارحمنا. (ذكصاستيكون المساء للّحن الخامس)
- لقد حبلتِ بالإله بقوّةِ الرحِ القدس، وحمَلتِه في حشاكِ ولم تحترقي. ولقد سبقتِ العلّيقةُ بدونِ احتراقٍ فشخّصَتكِ لموسى المُشترِع، يا من اقتبَلتِ النارَ التي لا تُطاق. (سحر اللحن الأوّل، من الأودية الثالثة)
- يا مريم الكلّيّةُ التسبيح، لقد تمّت فيكِ ثلاثةُ اتّحاداتٍ رهيبة: إتّحادُ الإلهِ بالإنسان؛ والبتوليّة بالوِلادة؛ والإيمانِ بالتي صدّقَت هاتَين الأُعجوبتَين. لذلك نبتهلُ إليكِ: اجعلينا واحدًا بمحبّةِ ابنِكِ، وخلّصينا. (سحر 23 تشرين الأوّل، والديّة الكاثسما الأولى)
       المولود أعطى بَقاءَ البتوليّةِ، بالإضافةِ إلى عدمِ الألم (ألم المَخاض) دليلًا على أُلُوهَتِه. وليسَ هذا غريبًا عليه كإله، لأنّه خرجَ من القَبرِ وهوَ مختوم، أي قبلَ أن يتدحرجَ الحجرُ عن بابِ القبر؛ ودخلَ العلّيّةَ التي كان التلاميذُ مجتمعينَ فيها والأبوابُ مغلَقة.
ونختم بِقَولٍ للقدّيس أفرام السريانيّ: * ميلادك الإلهي يا رب قد وهب البشرية كلها ميلادًا... ولدتك البشرية حسب الجسد، وأنت ولدتها حسب الروح... المجد لك يا من صرت طفلًا لكي تجعل الكل جديدًا.