إفرحوا في الرَّبّ

الفَرَحُ الدُّنيَوِيّ
       يَقولُ المُرَنِّمُ، صاحبُ المَزامير: "الصِّدِّيقُ يَفرَحُ بالرَّبِّ وعَلَيهِ يَتَوَكَّلُ" (مز 10:63)
وَيَدْعُونا إلى الابتِهاجِ بِالرَّبّ، وَالتَّرنِيمِ لَهُ: "إِبتَهِجُوا بالرَّبِّ يا أَيُّها الصِّدِّيقون، فَإِنَّ التَّسبيحَ يَليقُ بالمُستَقِيمِين. سَبِّحُوا الرَّبَّ على القِيثار، إِعزِفُوا لَهُ على كِنّارَةٍ ذاتِ عَشَرَةِ أَوتار. رَتِّلُوا لَهُ تَرتِيلَةً جديدة، أَحْسِنُوا العَزْفَ مَعَ التَّهليل" (مز 1:32- 3)
       يَطلُبُ بولسُ الرَّسُولُ مِنّا أن نفرحَ في الرَّبّ (في 1:3)؛ وَيُكَرِّرُ هذا الطَّلَبَ بِإِلحاح:
"إِفرَحُوا في الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيضًا افرَحُوا" (في 4:4).
       وَالإنسانُ يَفرحُ عادةً عندما يمتلكُ الخيراتِ الأرضيّة، وَعندما يحصلُ على أشياءَ يُحِبُّها. لا بَل هُوَ يَفرَحُ عندَما يَنالُ وَعدًا بالحُصُولِ على ما يُحِبّ. إِلاّ أَنَّ الاهتماماتِ الدُّنيَوِيّة غالبًا ما تجلبُ للإنسانِ الحُزنَ لا الفَرَح. وحتّى الفَرَحُ الّذي تجلبُهُ لَهُ هُوَ فَرَحٌ آنِيٌّ مُؤَقَّتٌ، سُرعانَ ما يَجتاحُهُ الحُزن، أو تُنَغِّصُهُ الشَّدائد!
       يقول نقولا كاباسيلاس: "مَن تَرَكَ نفسَهُ لِيَكُونَ أُلعُوبَةً بِيَدِ القَدَرِ والأهواءِ الحياتِيّة، يُعاني دُوارًا وانهِيارًا نفسِيًّا وتَضَعضُعًا، ولا يتردَّدُ عن فِعلِ كُلِّ ما هُوَ قبيحٌ وخاطئ... وعندما تُوجَدُ النَّفسُ في مثل هذه الحالةِ المُحزِنة، تملأها جراحُ الخطيئة، فتَنقادُ إلى الموتِ الرُّوحيّ، إلى الابتعادِ لكُلِّيِّ عنِ الله... فَعَلى مِن يُرِيدُ أن يَحيا الحياةَ في المسيح، أن يُحَصِّنَ نفسَهُ ضِدَّ كُلِّ الاهتِماماتِ الكافرة".
       على المسيحيّ، إِذًا، أن يهتمّ بالإلهيّات أكثرَ من اهتمامِهِ بالخيرات الدّنيويّة. وبهذا المعنى، وجدَ الرُّسُلُ من غَيرِ اللائقِ أن يَتركوا كلمةَ الله ليخدموا الموائد (أع 2:6). وَقد وَعَدَنا السَّيِّدُ أنَّ مَن يطلُبُ مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، سَوفَ يُزادُ لَهُ كُلُّ شيء. (مت 33:6)
       أَفراحُ هذهِ الدُّنيا تَؤولُ إلى حُزنٍ وَفَراغ.. ثَمَّةَ فَرَحٌ لا يَعرُوهُ فَسادٌ.. فَما هُوَ؟ وكيفَ نحصلُ عليه؟
 
الحُزنُ الّذي يَؤولُ إلى فَرَح
       إِذا كانت أفراحُ الدُّنيا تَؤولُ إلى حُزن، فَإِنَّ الحُزنَ مِن أجلِ الله يَؤولُ إلى فَرَح.
       المسيحيُّ الّذي يَسعى إلى النُّمُوِّ الرُّوحِيّ، لا يَحْزَنُ لِخَسارَةٍ مادّيّة، بَلْ يَحزَنُ كُلَّما خَطِئَ، لأَنَّهُ بِخَطِيئَتِهِ يُحزِنُ مَحَبَّةَ الله، وَيَخُونَ إِيمانَهُ بِه.. لِذا يَسعى إلى التَّوبةِ الصّادقة، مُجاهِدًا للتَّحَرُّرِ مِن كُلِّ خطيئةٍ تَسُودُ النَّفس.
       الخسارةُ.. الفَشَلُ.. الإهانات.. الأمراض الجَسَدِيّة.. وَلو كانت مُؤلِمَةً، إلاّ أَنّها لا تُحزِنُ المسيحيَّ الحَقّ. قد يَبدو عليهِ التَّعَبُ أَوِ الإرهاق، إِلاّ أنَّ قَلبَهُ لا يضطربُ، بَل يَكُونُ في سَلام:
"طُوبى لَكُم إِذا عَيَّرُوكُم واضطَهَدُوكُم وقالوا عليكم كُلَّ كلمةِ سوءٍ مِن أجلي كاذِبِين. إِفرحُوا وابتَهِجُوا فَإِنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ في السَّموات" (مت 11:5- 12).
"الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُم إِنَّكُم سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ والعالَمُ يَفرح. وأنتم تَحزَنُونَ ولكنَّ حُزْنَكُمْ يَؤُولُ إلى فَرَح. المرأةُ حِينَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ ساعَتَها قد أَتَت، لكنّها متى وَلَدَتِ الطِّفلَ لا تَعُودُ تَذْكُرُ شِدَّتَها مِن أجلِ الفَرَح، لأَنَّهُ قد وُلِدَ إنسانٌ في العالَم. وأنتمُ الآنَ محزونُونَ، لكنّي سأراكُمْ فَتَفرَحُ قُلُوبُكُم، ولا يَنزِعُ أحدٌ فَرَحَكُمْ مِنكُم"
(يو 20:16- 22).
وَسْطَ العالَمِ المُضْطَرِبِ، المليءِ بالمَخاوِف، يَشعُرُ المَسيحِيُّ بالغُربة، أو أَنَّهُ طائرٌ يُغَرِّدُ خارجَ سِرْبِه.. قد ينعزلُ.. قد يَخاف.. ولكنْ، سُرعانَ ما يأتِيهِ السَّلامُ الحقيقيُّ مِنَ المسيحِ نفسِه:
"... كانَ التَّلامِيذُ مُجتَمِعِينَ خَوفًا مِنَ اليَهُود، جاءَ يَسُوعُ ووقفَ في الوَسطِ وقالَ لَهُمُ السَّلامُ لَكُم. وَلَمّا قالَ هذا أَراهُمْ يَدَيهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ التَّلامِيذُ حِينَ أَبصَرُوا الرَّبّ" (يو 19:20- 20).
المسيحيُّ لا يُفْرِحُهُ الغِنى وَلا المَجدُ وَلا الشَّهوة، بَل يُفْرِحُهُ أَنَّ الرَّبَّ يَرعاهُ وَيَسمَعُ صَوتَه:
"فَرِحْتُ جِدًّا، لأَنَّ الرَّبَّ يَسمَعُ صوتَ تَضَرُّعي" (مز 1:114)
"تَنضَحُني بالزُّوفى فَأَطْهُر. تَغْسِلُني فَأَبْيَضُّ أَكثرَ مِنَ الثَّلج. تُسْمِعُني سُرُورًا وَبَهْجَةً فَتَجْذَلُ عِظامي الذَّليلة... إِمْنَحني بَهْجَةَ خَلاصِكَ وَبِرُوحِكَ المُدَبِّرِ اعْضُدْني" (مز 7:50 و8 و12)
"فَلِماذا أنتِ حَزِينَةٌ جِدًّا يا نَفسي؟ وَلِماذا تُقْلِقِينَني؟ تَوَكَّلي على الله، فإِنِّي أَحْمَدُهُ لأَنَّهُ خَلاصُ وَجْهي وَإِلهي" (مز 5:41)
"كَثِيرَةٌ هِيَ أَحزانُ الصِّدِّيقِين، وَمِنها جَمِيعِها يُنَجِّيهِمِ الرَّبِّ" (مز 19:33)
 
الفَرَحُ مِن أجلِ الآخَر
       والمَسِيحِيُّ الّذي يُجاهِدُ لِيَنْمُوَ رُوحِيًّا، لا يَشْعُرُ بِنَفْسِهِ فقط، بَل يَشْعُرُ بالآخَرِين.. بِسائرِ أَعضاءِ جَسَدِ المَسيحِ الواحد، فَيَحزَنُ لِحُزْنِ أَخِيه وَيَفرحُ لِفَرَحِه:
"لِئَلاّ يَكُونَ في الجَسَدِ شِقاقٌ، بَلْ تَهْتَمَّ الأعضاءُ اهتِمامًا واحدًا بَعْضُها بِبَعض. فَإِذا تَأَلَّمَ عُضْوٌ تَأَلَّمَ مَعَهُ سائرُ الأعضاء، وَإِذا أُكْرِمَ عُضْوٌ فَرِحَ مَعَهُ سائرُ الأعضاء" (1كور 25:12- 26).
وَيَسعى إلى فَرَحِ أَخِيه، وَلَو على حِسابِ نَفسِه:
"فَنَفرَحُ حِينَ نَضْعُفُ نحنُ وَتَقْوَونَ أَنتم" (2كور 9:13).
"لَو أُرِقْتُ سَكِيبًا على ذَبِيحَةِ إِيمانِكُم وَخِدْمَتِهِ لَكُنْتُ أَفْرَحُ وَأَبْتَهِجُ مَعَ جَمِيعِكُم. وَبِذلِكَ عَينِهِ افْرَحُوا أنتم أَيضًا وابْتَهِجُوا مَعي" (في 17:2- 18).
       لَم يَسْعَ رَبُّنا يَسُوعُ إلى إِرضاءِ نفسِه أو إلى تنفيذِ رَغَباتِه:
"إِنَّ طَعامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذي أَرْسَلَني وَأُتَّمِّمَ عَمَلَه" (يو 34:4).
وعَلَّمَنا في مَثَلِ الابنِ الشّاطر أَن نَفْرَحَ بِعَودَةِ الأَخِ الضّالّ:
"كانَ يَنبَغي أن نفرحَ وَنُسَرَّ لأنَّ أخاكَ هذا كانَ مَيتًا فعاش، وكان ضالاًّ فَوُجد"
(لو 32:15).
وَأَنْ نَبتَعِدَ عَنِ الحَسَدِ الرَّدِيء الّذي تَجَلّى في موقفِ الابنِ الأَكبر:
"كم لِي مِنَ السِّنينِ أَخدمُكَ، وَلَم أَتَعَدَّ لَكَ وَصِيَّةً قَطُّ، وَأنتَ لَم تُعْطِني قَطُّ جَدْيًا لأَفْرَحَ مَعَ أَصدِقائي" (لو 29:15).
وكان قد مَهَّدَ لِهذا المَثَلِ بِمَثَلَين: مَثَلِ الخَروفِ الضّالّ ومَثَلِ الدِّرهَمِ الضّائِع، مُعلِنًا بِهِما أَنَّ الملائكةَ أيضًا يفرحُونَ عندَما يَعُودُ إِنسانٌ عن خطيئتِه. وهذه مِن سِماتِ القَداسةِ عندَ الملائكة: الفَرَحُ لِخَلاصِ البَشَر:
"... يَكُونُ فَرَحٌ في السَّماءِ بِخاطئٍ واحدٍ يَتُوب، أَكثَرَ مِن تِسعةٍ وَتِسعينَ بارًّا لا يَحتاجُونَ إلى تَوبة... يَكُونُ فَرَحٌ قُدّامَ ملائكةِ اللهِ بِخاطئٍ واحدٍ يَتوب" (لو 7:15 و10).
 
الفَرَحُ مِن أجلِ انتِشارِ مَلَكُوتِ الله على الأرض
       يُعَبِّرُ داودُ النَّبِيُّ عن فَرَحِهِ بِأَعمالِ الرَّبّ: "لأَنَّكَ فَرَّحْتَني يا رَبُّ بِأَعمالِكَ، وَبِأَفعالِ يَدَيكَ أَبْتَهِجُ" (مز 4:91).. "هذا هُوَ اليَومُ الَّذي صَنَعَهُ الرَّبّ، فَلْنَفْرَحْ وَلْنَتَهَلَّلْ بِه" (مز 24:117)
       وَقَد علَّمَنا الرَّبُّ أن نَقُولَ في الصَّلاة: "لِيَأْتِ مَلَكُوتُك" (مت 10:6)، أَيْ أَن نَرغَبَ في انتِشارِ مَلَكُوتِه بَينَ جَميعِ النّاس، وَأن نَسعى إلى ذلك، وأن نفرحَ كُلَّما شَهِدْنا شيئًا مِنه. عَلَّمَنا أَن نَسْمُوَ في صَلاتِنا إلى السَّماء، فَلا تَعُودَ عِبارَةً عن مجموعةٍ مِن المَطالب: "يا رَبُّ أَعطِني كَذا.. اجعَلْني أَنجَحُ في كَذا..."، مهما كانت هذه المَطالبُ مُحِقَّةً، وَمَهما كانت نَبيلة. فقدِ انتَهَرَ تَلامِيذَهُ عندَما فَرِحُوا بِاجتِراحِ المُعجِزات، وَإخراجِ الشَّياطِين:
"ولكنْ لا تَفرَحُوا بِهذا أنَّ الأرواحَ تَخضَعُ لَكُم، بَلِ افرحُوا بِالحَرِيِّ أَنَّ أَسماءَكُم كُتِبَتْ في السَّموات" (لو 20:10).
       إجتراحُ المُعجِزات أَمرٌ سَهْلٌ على الله، وَلكنَّهُ ليسَ سَهلاً على الإنسان، لأَنَّهُ يَحتاجُ إلى كَمٍّ هائلٍ مِنَ التَّواضُع، لاحتِمالِه، وَعَدَمِ الانتِفاخ والسُّقُوطِ في الكبرياء.
       ما يَنبغي أن نطلُبَهُ منَ الرَّبّ هُوَ أَن يَغرُسَ فِي نُفُوسِنا وَفي نُفُوسِ الآخَرِينَ أيضًا الشَّوقَ إِلَيه وَالشَّغَفَ بِوَصاياه، وَالفَرَحَ بِتَحقيقِ مشيئتِه. في هذا الإطار، يفرحُ المسيحيُّ حِينَ يَرى الآخَرِينَ يَزدادُونَ إِيمانًا:
"إِذًا، يا إِخوَتي الأَحِبّاءَ وَالمُشتاقَ إِلَيهِم، يا سُرُورِي وَإِكليلي، اثْبُتُوا هكذا في الرَّبّ... إفرحوا في الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أيضًا افرَحُوا..." (في 1:4 و4).
يَفرَحُ بانتِشارِ مَلَكُوتِ اللهِ على الأرض:
"فَإِنِّي وَإِنْ كُنتُ غائبًا بالجَسَد، فَإِنِّي مَعَكُم بالرُّوح، فَرِحًا وَمُعايِنًا نِظامَكُم وَثَباتَ إِيمانِكُم بالمسيح" (كو 5:2).
       لا يَكُونُ المسيحِيُّ مَسِيحِيًّا لِمُجَرَّدِ الإيمانِ بِالمَسيح، مَهما كان مَصحُوبًا بِحَماسَةٍ أو بِانفِعالٍ أو بِمَشاعِرَ جَيّاشة. فالإِيمانُ بِالمَسِيحِ يَكتَمِلُ بِالسَّعْيِ الحَثِيثِ لإِحلالِ مَلَكُوتِه. أَمّا الاكتِفاءُ بالإِيمان فَيَجْعَلُنا كَالشَّيطان، لأَنَّهُ يُؤمِنُ بِالله، لا بَلْ يَرتَعِدُ مِن شِدَّةِ إِيمانِه، لكنَّهُ لا يَعْمَلُ بِمَشِيئَتِه، وَلا يَفرحُ إِذا نَجَحَ الآخَرُونَ في ذلك، بَل يُحاوِلُ باستِمرارٍ أن يُعَرْقِلَهُم. الشَّيطانُ يُؤمنُ بالله، وَيُعَرقِلُ مَلَكُوتَه. هذا إِيمانٌ عقيم.. لا يُؤَدِّي إلى الخلاص.
       إِنَّ "التَّنافُسَ في المَواهِبِ الفُضلى" (1كور 31:12) لا يَعني أَن أَتمَنّى لِنَفسي التَّفَوُّقَ عل الآخَرِينَ في الأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ وَفي عَمَلِ الفَضيلة! فهذا سَعيٌ إلى المجدِ الباطل، لا حُبٌّ بالفضيلةِ والصَّلاح.. هذا حَسَدٌ يُعْمِي بَصِيرَةَ صاحِبِه، وَيَمْنَعُهُ مِنَ الشُّعُورِ بالمَحَبَّةِ الصّادِقَةِ نحوَ الآخَرِين. وَإِنَّما يَعني أَن أَتَّخِذَ الآخَرِينَ قُدْوَةً لِي، فَرِحًا بِما أَعطاهُمُ اللهُ مِنْ مَواهِب، وَشاعِرًا بِعَدَمِ اسْتِحقاقي.
 
الفَرَحُ في الرَّبِّ ثمرةُ عشرَتِنا مع الرُّوحِ القُدُس
*     لا يُمكِنُ أن يَكُونَ فَرَحُنا بالأُمُورِ الدُّنيَوِيَّةِ كاملاً، بل هو محدودٌ بالضَّرورة. فإذا حصَلنا على شيء، أَعْوَزَتْنا أَشياءُ كَثيرة. ونقضي العُمرَ جَرْيًا وَراءَ تحقيقِ الرَّغَباتِ، وَنَبقى عِطاشًا.. لا نتمكَّنُ يَومًا مِن تحقيقِ كُلِّ ما نُرِيد.
       أَمّا اللهُ فَهوَ غَيرُ مَحدود، لِذلكَ محبَّتَهُ لنا غَيرُ محدودة، فَعَلَينا أن نَسعى إلى مُبادَلَتِهِ المحبَّةَ بِلا حُدُود. فنحصلُ إِذْ ذاكَ على فَرَحٍ لا يُوصَف.
       يَكُونُ لَنا ذلك، إِذا عِشْنا بِالرَّبّ.. إِذا صِرنا نَعِيشُ لا لأَنفُسِنا بَل للرَّبّ..
*     يَكُونُ لَنا ذلك، إِذا اجتَهَدْنا طُولَ العُمرِ أَلاّ نُحزِنَ الرُّوحَ القُدُسَ السّاكِنَ فِينا (أف 30:4) وَأَلاّ نُطْفِئَهُ (غلا 2:3).
       فَكُلَّما أَنكَرْنا أَنفُسَنا، وتَعَلَّقَ شَوقُنا بالرَّبّ، جاهِدِينَ وَساهِرِين وَمُنتَظِرِينَ، بالإِيمانِ العامِلِ بالمحبّة، وَبِالرَّجاء، ازدادَ ثَباتُ الرُّوحِ القُدُسِ فِينا، وازدادَ عَمَلُهُ داخِلَ نُفُوسِنا... حينئذٍ تنعتقُ النَّفسُ مِن محبّة العالَم، وتُفلتُ مِن سلطانِ الأهواء، وتتغيّرُ طبيعتُها.. فتصبحُ على علاقةِ حُبٍّ شديدٍ مَعَ العريسِ السّماويّ.
       بِهذه العلاقة معَ الرّوحِ القُدُسِ تصبحُ النَّفسُ البشريّةُ في أَوْجِ الغِنى، حائزةً على الكنزِ السَّماويّ.. كنزِ الصّالحات.. ويصبحُ عملُ الفضائلِ مِن طبيعتِها لا عن اضطِرارٍ أو صُعُوبة.. ويصبح تتميمُ وصايا الله مُمكِنًا بِلا تَعَب.
*     عَلَينا أن نُدْرِكَ شَقاءَنا وَبُؤسَنا وفَقْرَنا وَعُرْيَنا.. وَاحْتِياجَنا إلى قُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ.. إلى قَداسَتِه.. إلى فِعْلِهِ فِينا.. وأن نطلبُ ذلكَ بِإِلحاح.. إِذْ ذاكَ، يَسكُنُ فِينا، وَلا يُطِيقُ أن يَبقى بِلا عَمَل.. وعمَلُهُ تَبكِيتُنا على الخَطايا.. والسَّيرُ بِنا في دَربِ القَداسة. هُوَ النُّورُ الَّذي يُنِيرُ ظُلمةَ نُفُوسِنا.
*     يقول القدّيس مكاريوس الكبير: "لقد دَعا الرَّبُّ نَفسَ الإنسانِ إلى الرّاحةِ الجديدة بقَولِهِ تَعالَوا إليَّ يا جميعَ المُتعَبِينَ والثَّقيلي الأحمالِ وأنا أُريحُكُم (مت 28:11)... وأحمالُها الثَّقيلةُ هي أفكارُها الباطلةُ النَّجِسَةُ وَنِيرُ أفعالِ الخُبت. وكُلُّ النُّفُوسِ الّتي تُطيعُ الدَّعوةَ وتأتي إليه يُرِيحُها مِن هذه الأفكارِ الثّقيلةِ الباهظة، وَيُطلِقُها مِن كُلِّ إِثْمٍ. وهكذا تَحفظُ النَّفسُ السّبتَ الجديدَ الدّائم، السَّبتَ الصّحيحَ المُبهِجَ المُقدَّس، وَتُعَيِّدُ للرُّوحِ القُدُس، عِيدَ الفَرَحِ والخِدمةِ النَّقِيَّةِ المقبولةِ لدى الله".
*     سُكنى الرُّوحِ القُدُسِ في النَّفس تحقيقٌ لِوَعْدِ المَسيح: "مَلَكُوتُ اللهِ في داخِلِكُم" (لو 21:17). هذا الملكوتُ الدّاخِلِيُّ هُوَ لرُّوحُ القُدُسُ الَّذي يتدَفَّقُ بِقُوَّةٍ في النَّفْسِ المُسْتَعِدّة، فَيُسَبِّبُ الفَرَحَ الَّذي لا يُوصَف.. يُسَبِّبُ النَّشوةَ الرُّوحِيّة.