القدّيسة مريم المصريّة كمثالٍ حيٍّ للتّوبة

هل مِن حدود؟
    لا مقياسَ لأعمالِ التّقوى، ولا حدود. وإنّه لَمِن بابِ الكَسَلِ الرّوحيِّ أنْ يستكينَ الإنسانُ إلى بِضعةِ مُمارَساتٍ تَقَوِيَّةٍ، مُعتَبِراً نفسَهُ كاملاً في القِيامِ بِما يتوجَّبُ عليه. أمّا إعفاءُ الإنسانَ نفسَهُ مِنَ الجِهادِ كُلِّيًّا، على قاعدةِ استِقامةِ السُّلوك، فَفَخٌّ ينصُبُهُ إبليسُ الماكِرُ لكي يُبعِدَ الإنسانَ عن خلاصِه.
    في تاريخِ الكنيسةِ الطّويل نَماذِجُ كثيرةٌ مِنَ الأبرارِ الّذينَ لَمَعُوا بالنُّسكِ والجِهادِ المُقَدّس. ليسوا كلُّهم نموذَجًا واحدًا، ولكنَّهم كُلَّهُم تقدَّسُوا، وتَلمَذُوا، وأَشَعّوا. هِيَ قاماتٌ روحيَّةٌ مُتَفاوِتَةٌ تَفاوُتَ شخصيّاتِ البَشَرِ وَطَبائِعِهم.. مُتَنَوِّعةٌ تَنَوُّعَ مَواهبِ الرُّوحِ القُدُس. لا يُمكنُكَ أن تَقُولَ عن أَحَدِها إنَّه هُوَ النّموذجُ الأَمثَل دُونَ سِواه. ولا يَصُحُّ أن تَحكُمَ على أحَدِها بالخَطأ بحجّةِ كَونِهِ، في نَظَرِكَ، مُتَطَرِّفًا.
    فثمّةَ الآباءُ السُّيّاح، والعمودِيّون، وسواهم مِمَّن بَلَغَ بِهِم العِشقُ الإلهيُّ درجاتٍ تفوقُ حدودَ منطقِ البَشَرِ وقدرةَ تحمُّلِهم. وَمِنَ الأمثلةِ البارِزَةِ أيضًا قدّيستُنا مريمُ المِصرِيّة، مَوضُوعُ حديثِنا اليوم. فَماذا نَتَعَلَّمُ مِنها؟

التّوبة القُصوى:
    شاءَتِ العنايةُ الإلهيّةُ أن تُكتَشَفَ مريمُ المِصريّةُ عَن طريقِ كاهنٍ بارٍّ اسمُهُ زوسيما. هذا كان راهبًا في أحدِ أديرةِ فلسطين، وكانَ يُحاوِلُ أن يكونَ كاملاً في نُسكِهِ وجِهاداتِه. وكانَ قد بَلَغَ الثالثةَ والخمسينَ مِنَ العُمر، لمّا راحَت تُلِحُّ عليه فكرةٌ تقول: "أَتُرى ثَمَّةَ في الأرضِ مَن يَنفَعُني ويَكشِفُ لِي نُسكًا لَم آتِهِ؟ هَلْ في البَرِّيَّةِ مَن يَفُوقُني؟" فظهَرَ لَهُ ملاكُ الرَّبِّ وقالَ لَهُ: "يا زوسيما، بِبَسالَةٍ جاهَدْتَ، في حدودِ طاقةِ النّاس، وَبِبَسالةٍ نَسَكْتَ. ولكنْ، ليسَ إنسانٌ بلغَ الكمال. بإزائكَ تنبسطُ جهاداتٌ مَخْفِيّةٌ أعظَمُ مِنَ الّتي خُضتَ فيها. فَلِكَي تَعلَمَ أنّ ثَمَّةَ طُرُقًا شَتّى تَنفُذُ إلى الخلاص، أَقُولُ لَكَ: اترُكْ أرضَكَ كما تركَ إبراهيمُ أُبو الآباءِ أرضَهُ، وَهيّا إلى الدّيرِ الواقعِ بِمُحاذاةِ نهرِ الأُردُن".
    كان قانونُ ذلك الدّير الذي انتقلَ إليه الأبُ زوسيما يَقضي بأنْ يخرجَ الرُّهبانُ إلى البَرّيّةِ، ويَعبُروا نهرَ الأُردُن، ويتفرّقوا كُلٌّ في اتّجاه. ثُمّ يلتقونَ في الدّيرِ يومَ أحدِ الشّعانين. وهكذا خرج زوسيما بدَورِه وتوغّلَ في البرّيّة نحوَ عشرينَ يومًا. وفجأةً، في وقتِ الظّهيرة، لمحَ من بعيدٍ طَيفَ إنسانٍ يقفُ على إحدى الرّوابي، فرسمَ إشارةَ الصّليبِ لكي يطردَ الخوفَ من قلبِه. ولمّا اقتربَ تيقّنَ مِن أنَّها امرأةٌ عاريةٌ، جِلدُها مُسوَدٌّ مِن تأثيرِ أشعّةِ الشّمس، شعرُها أبيضُ غيرُ طويل. ولمّا راحَتْ تَهربُ من وجهِه جَدَّ في إثْرِها، وراحَ يتوسَّلُ إليها باسمِ الله أن تتوقّف. فردّتْ عليه أنّها لا تستطيعُ أن تُواجِهَهُ وهي عاريةٌ، فإذا أرادَ أن يُقابِلَها عليه أن يتركَ لها رداءَه. ووَردَ في كلامِها: "أيّها الأبُ زوسيما"، فارتعدَ هذا الأخيرُ، وألقى إليها بردائه، فجاءت إليه وسألته ماذا يُريد منها هي الخاطئة، بعدما خاضَ كُلَّ تلكَ الجهاداتِ الباهرة. فألقى بنفسه إلى الأرض وسألها البَرَكة، وفعَلَتْ هي كَفِعلِه، وبَقِيا فترةً طويلةً على هذه الحال، إلى أنِ انتصرَ زوسيما في النّهاية وأخذَ منها البركةَ التالية: "تباركَ اللهُ الذي يحرصُ على خلاصِ النّاسِ وَنُفُوسِهم".
    إذًا، وجدَ زوسيما ضالَّتَه.. عرَفَ أنَّ ثمَّةَ نُسْكًا أعظَمَ بِكَثيرٍ مِمّا عَرَفَهُ هُوَ وخَبَرَهُ.
    + مريم المصريّة نموذجٌ  غير عاديّ للتّوبة.

إعتراف:
    بعد أن طلبَ الكاهنُ مِن القدّيسةِ أن تُصَلِّيَ لأجلِه ولأجلِ العالَم، وشاهدَها ترتفعُ عن الأرض، راحت تَقُصُّ عليهِ سيرةَ حياتِها من البداية، وهو يَسمعُ.. وَيَبكي:
- غادرت منزل والدَيها في مصر، وذهبت إلى الإسكندريّة وهي في الثّانيةَ عشرة من العُمر. عاشت في الدَّعارةِ سبعة عشر عامًا. وأقحمَت نفسَها في سفينةٍ تُقِلُّ حُجّاجًا يقصدونَ أورشليم ليحضروا عيد رفع الصّليب. ولم يَكُنْ هَمُّها سِوى الحُصُولِ على المَزِيدِ مِنَ الفُجُور.
- كُلُّ النّاسِ يَدخُلُونَ إلى الكنيسةِ بِسُهُولَةٍ، وهِيَ لا تستطيع. حاوَلَتْ عِدّةَ مَرّاتٍ، وفي كُلِّ مَرَّةٍ كانَتْ قُوَّةٌ غيرُ منظورةٍ تَحُولُ دُونَ دُخُولِها. فعادَتْ إلى نفسِها، وعرَفَتْ أنَّ حياتَها الدَّنِسة هِيَ الّتي مَنَعَتْها مِنَ الدّخول. فراحَتْ تبكي وتنتحب وتتنهّدُ من أعماقِ قَلبِها.
- رَفَعَتْ عينَيها، وهي في رِواقِ الكنيسة، فَوَقَعَ نَظَرُها على أيقونةِ والدةِ الإله، فراحَتْ تتضرَّعُ إليها أنْ تَسمحَ لها بالدُّخول، مُتَعَهِّدَةً أمامَها أنّها لَن تُنَجِّسَ جَسَدَها بعد اليوم، وأنّها ستتوجَّهُ، بعدَ أن تَسجُدَ للصَّليبِ الكريم، إلى حيثُ تَقُودُها العذراءُ والدةُ الإله.
- خاطَبَتْها العذراءُ وطلَبَتْ منها أنْ تَعبُرَ الأُردن لِكَي تجدَ الرّاحة.
    يَحتاجُ الإنسانُ إلى صدمةٍ ما لِكَي يَتُوب. وهذا يختلفُ من شخصٍ لآخَر. مريم المصريّة كانت بحاجةٍ إلى صدمةٍ بهذا الحجم.
    + ولكنّ المهمّ في الأمر أن يستفيد الإنسانُ من الصّدمة ويتوب، وذلك بأن يَفِرَّ هاربًا من الخطيئة، ولا يعودَ يلتفتُ إلى الوراء.
    + إذا لم تقتلع الخطيئةَ من جُذُورِها، فإنّها تَعُودُ مِن جديدٍ أقوى مِمّا كانت.
- سبعة عشر عامًا حارَبَتْها الأهواء. ولمّا رآها زوسيا كان لها في البرّيّة سبعةٌ وأربعون عامًا. طِيلةَ هذه المُدّة، لم تَرَ وَجهَ إنسان.
    قرارُ التّوبةِ يكونُ في لحظة، إلاّ أنّ تنفيذه يتطلّب سنوات.
    + كما أسلمَ الإنسانُ نفسَه للخطيئة، عليه، إذا تاب، أن يُسلمَ نفسَه للتّوبة.
    + ولكن، ألَيسَ هذا كثيرًا؟ أَلَمْ تُفْنِ عُمرَها في البرّيّة؟ ألَيسَ هذا انتحارًا؟
    قُلْنا إنّها نَمُوذَجٌ أقصى للتَّوبة. وأيضًا، لا نَنسَ أنّها حِينَ شعرَتْ بِنَجاسَةِ حَياتِها الماضية، وكيفَ أنّها أَفْنَتْ عُمرَها في الرّذيلة، قَرَّرَتْ أن تَربَحَ نفسَها حتّى وَلَو خَسِرَتِ العالَمَ كُلَّه.
- طلبَتْ منه أن يَعُودَ إليها في السنةِ القادمة، لا في فترةِ الصَّوم على حسَب عادةِ الدّير، بَل في يوم العشاءِ الأخير، حاملاً جسدَ الرّبّ ودمَهُ الكريمَين، وأنّها سَتُلاقِيهِ عند ضفّةِ نهرِ الأردن.

مناولة:
    عادَ في السنةِ القادمة حسبَ الاتّفاق، وانتظرَها طويلاً، وراحَ يتساءَلُ كيفَ ستجتازُ نهرَ الأردن إليه. فإذا بها تَظهرُ واقفةً في الجهةِ الأُخرى من النّهر، وتَرسُمُ علامةَ الصليبِ على المياه، وتمشي على صفحتِها باتّجاهِه.
    طَلَبَتْ منه أن يتلوَ دستورَ الإيمانِ، والصَّلاةَ الرّبّيّة، ثُمَّ ناوَلَها القُدُسات. وطلَبَتْ منه أن يَعودَ في السنةِ القادمة.
    تَوبةٌ طويلةٌ معَ جِهاداتٍ فائقة.. ثُمَّ اعترافٌ أمامَ كاهنٍ.. ثُمّ تناوُلُ القُدُسات.
    وفيما قَفَلَتْ راجعةً مثلَما جاءَتْ، سَيرًا على المياه، انثنى الكاهنُ زوسيما وَهوَ يَلُومُ نفسَهُ أنّه لم يسألْها عن اسمِها. فقرّر أن يفعلَ ذلك في السنّةِ القادمة.
    ولمّا عادَ في السنةِ القادمة في الوقتِ المعيَّن، وجدَها ممدّدةً على الأرض ميتةً. بكى طويلاً، ثُمَّ تلا المزاميرَ المعيَّنة وصلاةَ الجنّاز. ثُمَّ قرأ كلماتٍ خُطَّت على الأرض بجانب رأسها: "أيّها الأبُ زوسيما، وارِ في التُّرابِ جسدَ مريمَ الوَضِيعة. أعِدْ إلى الرَّمادِ ما هُوَ رماد، وَصَلِّ إلى الرَّبِّ مِن أجلِ الّتي ارتَحَلَتْ في اليومِ الأوّلِ من شهرِ نيسان، ليلةَ آلامِ ربّنا، بعدَ أن ساهَمَتِ الأسرارَ الإلهيّة".
    وإذْ حاولَ الأبُ أن يَحفِرَ قَبرًا، لَم يتمكَّن بسببِ ضعفِ قُوَّتِه، وَصَلابةِ الأرض، فالتَفَتَ فرأى أسدًا ضخمًا يقفُ عند قدمَي القدّيسةِ يَلعَقُ قَدَمَيها، فطلَبَ منه أن يَحفِرَ القبرَ ففعل.