أيّتها الأُمُّ انتَبِهي

الأُمّ الأُولى والأُمّ الثّانية:
        إنَّ مَوقِفَ حَوّاء الأُمِّ الأُولى جَلَبَ العارَ لِجِنسِ البَشَر؛ إلاّ أنَّ مَوقِفَ مَريَمَ العَذراءِ الأُمِّ الثّانِيَةِ مَحا العارَ وجَلَبَ الخَلاص. لِذٰلِكَ نَعتَبِرُ مريمَ العَذراءَ حَوّاءَ الجديدة، الّتي جَلَبَتْ لِلعالَمِ آدَمَ الثّانِيَ.. آدَمَ الجديد.. رَبَّنا يَسُوعَ المسيح.
        لذٰلكَ نُسَمِّي حَوّاءَ الأُمَّ الأُولى لِلجِنسِ البَشَرِيّ، ومَريمَ الأُمَّ الثّانية.
والدةُ الإله وأمُّنا جميعًا:
مريمُ هِيَ والِدَةُ الإلٰه، وَأُمُّنا جميعًا.
كَأُمٍّ لِيَسُوع، حَضَنَتْهُ وَرَعَتْهُ مُنذُ لحظَةِ الحَبَلِ بِهِ، وَطِيلَةَ حَياتِهِ على الأرض، قَبْلَ التّبشيرِ وَبَعدَه، وَرافَقَتْهُ في مَسيرةِ آلامِه بِتَفاصِيلِها المُؤلِمَة الرَّهيبة، وَشَهِدَتْ ظُهُورَهُ بَعدَ القِيامة، وكانَتْ مَع المجتمِعِينَ في عِلِّيَّةِ صِهيَون يَومَ الخمسين. وبَقِيَتْ حتّى انتِقالِها مِن هٰذِهِ الدُّنيا مَرجِعًا لِتَلامِيذِهِ وَأُمًّا رُوحِيّة.
        وَكَأُمٍّ لَنا جَميعًا، تُراقِبُنا بِعَينِ الرِّعايَةِ والحَنان، مُشفِقَةً على ضُعُفاتِنا، وَمُتَضَرِّعَةً مِن أجلِنا على الدَّوامِ لِكَي نَنالَ الخَلاص. ندعُوها في صَلَواتِنا: الشَّفيعةَ الحارّة، الشَّفيعةَ غيرَ الخازِية، الوَسِيطَةَ غَيرَ المَردُودة، الوَسِيطَةَ الدّائمةَ عِندَ الله، سِتْرَ العالَم، سُورَ العَذارى، ...
الدّالَّةُ الوالِدِيّة:
        رُغمَ تَوقِيرِها لاِبنِها الإلٰه، امتَلَكَتْ عنِدَهُ دالَّةَ الأُمِّ على ابنِها. وقد ظَهَرَ ذٰلِكَ جَلِيًّا في عُرسِ قانا الجليل، حيثُ  اضطُرَّ على اجتِراحِ أُعجُوبَةِ تحويلِ الماءِ إلى خَمْرٍ، مَعَ أنَّهُ كانَ قد رَفَضَ التَّدَخُّلَ لأنَّ ساعتَهُ لَم تَكُنْ قد أتَتْ بَعدُ. إجتَرَحَ الأُعجُوبَة عندَما رأى إصرارَ أُمِّهِ عَلَيه. واللافِتُ أنَّ إصرارَها لَم يَكُنْ بِنِقاشٍ أو بِصُراخٍ أو بِتَوَسُّل. لَقَدِ اكتَفَتْ بِاتِّخاذِ القَرار، فَأَوعَزَتْ إلى الخُدّامِ أنْ يُنَفِّذُوا ما سَيَقُولُهُ لَهُمْ يَسُوع. وكانَ ما كان.
        فَإذا كانَتْ أُمُّ الإلٰهِ تملِكُ مِثلَ هٰذِهِ الدّالَّةِ على ابنِها، أَفَلا يَجدُرُ بِكُلِّ أُمٍّ مِن أُمَّهاتِنا الحَبِيبات ألاّ تُفَرِّطَ بِهٰذِه الدّالّة. هٰذِهِ دَعوَةٌ أُوَجِّهُها إلى كُلِّ أُمٍّ: لا تَستَقِيلِي مِن دَورِكِ المُوجِّه، والرّاعي، والمُقَوِّم، والمُنَبِّه.
        إذا لَمَستِ عندَ أبنائِكِ مَيلاً إلى عَمَلِ الصّالِحات، فَلا تَردَعِيهِم، وَلا تُثَبِّطي عَزائِمَهُم، بَل بارِكي وَشَجِّعي وَسَهِّلي. اهتَمِّي لِنُمُوِّهِمِ الرُّوحِيّ وَنَجاحِهِم في العَيشِ بِحَسَبِ مَشيئةِ الرَّبّ. إقلَقِي لِشُرُودِهم عَن جادَّةِ الصَّواب، وابتِعادِهِم عَنِ الحياةِ الكَنَسِيّةِ والنَّشاطاتِ المُبارَكة.
تأثير الأمّ على ولدِها:
        لقد أثبتَتِ الدِّراساتُ المختصَّةُ أنَّ وَضْعَ الأُمِّ يُؤَثِّرُ مُباشَرَةً في الجَنِينِ الّذي في بَطنِها، سَلْبًا وَإيجابًا. وَبَعدَ أن يُبصِرَ النُّور، يتفاعَلُ مَعها عبرَ النّظرِ والشَّمِّ والذّوق والسَّماع واللّمس. وَرَدّاتُ فِعلِ الأُمِّ هِيَ الّتي تَضَعُ الأُسُسَ للِبُنْيَةِ السُّلُوكِيَّةِ الّتي لِلشَّخصِ الّذي سَيَكُونُهُ الطِّفلُ الّذي بَينَ ذِراعَيها.
الأسرةُ هي المكانُ الأمثَلُ للتربيةِ الدّينيّة:
        إذا تصَفَّحنا سِيَرَ القِدِّيسِين، وَجَدْنا عِدَّةَ نماذِجَ مِن قدّيسِينَ تَوَصَّلُوا إلى القداسة بِسَبَبِ أُمَّهاتِهِم القِدّيسات. منهم مَثَلاً:
- سُلُموني الشّهِيدة مَع أولادِها السَّبعةِ الشُّهَداء.
- حنّة والدة النّبيّ صموئيل. نَذَرَتِ ابنَها كاهنًا لله.
- أليصابات والدة النبيّ السّابق يوحنّا المعمدان. نَذَرَتِ ابنَها لِخِدمَةِ الكَلِمة.
- صوفيا الشّهيدة. استُشهِدَتْ مَعَ بَناتِها الثَّلاث: بيستي وإلبيذي وأغابي.
- والدة الشّهيد العظيم يعقوب الفارسيّ المقطّع.
- مرتا والدة سمعان العجيب (العموديّ الجديد).
- نونا والدة غريغوريوس اللاهوتيّ. هَدَتْ زَوجَها الوَثَنِيَّ إلى المسيحيّة، وأرشَدَتْهُ، وصارَ فيما بعدُ أُسقُفًا. قَدَّمَتِ ابنَها كاهنًا لله
- مونيكا والدة أوغسطينوس المغبوط. بَقِيَتْ 16 عامًا تبكي وتصومُ وتُصلّي إلى الله لكي يُعِيدَ ابنَها مِن حَياةِ الإثمِ والغُرُورِ والبِدَع، حتّى انتَصَرَتْ، وأعادَتْ إلى اللهِ ذٰلكَ الشّابَّ التّائه، الّذي صارَ فيما بعدُ في عِدادِ القدّيسِين. ولأجلِ دُمُوعِ أُمِّه، دُعِيَ أُغسطينوس "إبنَ الدُّمُوع".
- تاتيانا والدة السّتارِتس زخريّا.
        التربيةُ الدينيّةُ الأساسيّةُ تتمُّ في الأُسرة. فالوَلَدُ يتأثّرُ عميقًا بإيمانِ والدَيه، ويتبنّاه. والوَلَدُ يُحِبُّ الصَّلاةَ ويتعلَّمُها إذا رأى والِدَه أو والدَتَهُ أو جدَّهُ أو جدَّتَه في موقفِ صلاةٍ. ولنأخُذْ مثالاً على ذلك ما رواه الكاتبُ الرّوسيُّ الشّهير مكسيم غوركي مِن ذكرياتِ طفولته. يقولُ إنّه تربّى في كَنَفِ جدَّتِه لأُمّه، الّتي كانت كلَّ صباحٍ بعد استِيقاظِها مِنَ النَّوم، تقفُ إزاءَ أيقونةِ العذراء وترسمُ إشارةَ الصّليب وتُتَمتِم: "يا والدةَ الإله الكُلِّيَّةَ القداسة، امنحينا نعمتَكِ في مطلعِ هذا النّهار"، ثمَّ تسجدُ إلى الأرض، ثمّ تنهضُ بهدوء وتهمس بحرارة: "يا يَنبوعَ الفرح، يا جمالاً كُلِّيَّ النّقاوة، يا شجرةَ تُفّاحٍ مُزهِرة، يا قلبًا نقيًّا وسماوِيًّا، يا حِمايَتي وعَضَدِي، يا شَمسِيَ الذّهبيّة، يا أُمَّ الرَّبّ، إحفظيني من التّجاربِ الشّرّيرة، لا تَدَعِيني أُسِيءُ إلى أحد، ولا تسمحي بأنْ يُساءَ إليَّ بدونِ مُبَرِّر". تبتسمُ عيناها، وتنفرج أساريرُها، كما لو أنّ شبابَها عادَ إليها، ثمّ تَرسُم إشارةَ الصّليبِ مِن جديد، وتتابع: "أيّها الرَّبُّ يَسُوع، يا ابنَ الله، إمنحْ رأفتَكَ لخاطئةٍ مسكينة، مِن أجل محبّة والدتِكَ..."
        وكانَ الطفلُ يُحِبُّ أن يسمعَ عن هذا الإله الّذي كان يُحِسُّ بحضورِه مِن خلالِ صلاةِ جدَّتِه، وكانت يطلبُ إليها أن تحدِّثَهُ عنه. يقول: "عندما كانت جدّتي تحدِّثُني عن الله والجنّةِ والملائكة، كانت تبدو كما لو أنّها أصبحت صغيرةً وناعمة. كان الشبابُ يعودُ إلى وجهها ويَشِعُّ نورٌ لطيفٌ مِن عينَيها الـمُغرَورِقَتَينِ بالدّموع. كنتُ أُمسِكُ بِجَدائلِها الثقيلةِ الحريريّة، وأَلُفُّها حولَ عُنُقي. وكنتُ، دونَ أن أُبدِيَ حَراكًا، أُصغي بانتباهٍ إلى أحاديثِها، ولا يعتريني منها المللُ أبدًا".
تحدّيات العصر:
        لا شَكَّ في أنَّ التّربيةَ عملٌ شاقٌّ بِطَبيعتِه. إلاّ أنَّ ما يَزِيدُه صعوبةً في عصرِنا الحاضر ومُجتمعِنا، في رأيي، ثلاثةُ أُمور: انهِيارُ القِيَم، والفِسقُ، والإلحاد. فعلَيكِ أيّتُها الأُمُّ أن تُضيفي إلى أتعابِكِ أتعابَ ملاحظةِ هٰذِه الأُمُورِ الثّلاثةِ في حياةِ أولادِك، لئلاّ يَنجَرِفُوا في أَحدِها أو فيها جميعًا.
أ- تَتَسَرَّبُ إلى مجتمعِنا شيئًا فشيئًا قناعاتٌ بالتَّفَلُّتِ مِنَ الضَّوابِطِ الأخلاقيّة المُتَعارَفِ علَيها، حتّى باتَتْ نظَريّاتٍ تُقالُ ولا تُطَبَّق. وَتُقرَنُ هٰذه القناعاتُ بالتَّطَوُّرِ التّكنولوجِيّ وَبِرُوحِ العَصر، وَبِرَوابِطَ أخرى مِن هُنا وَمِن هُناك، ما هِيَ إلا مُبَرِّراتٌ واهِيَةٌ، وَتَعَلُّلٌ بِعِلَلِ الخَطايا. إنسانُ اليَومِ يَخطَأُ وَلا يَخجَلُ مِن خطيئتِه، بَلْ يُجاهِرُ بِها بِكُلِّ جَسارَةٍ ووقاحة، حتّى حُدُودِ الافتخارِ أحيانًا.
ب- وَيتبَعُ هٰذا التَّفَلُّتَ عِصيانُ أوامِرِ الله، وهُوَ ما يُسَمّى بالفِسْقِ أوِ الفُسُوق. فَمِنَ الطّبيعيّ لِمَن أباحَ لِنَفسِهِ التصَرُّفَ على هَواهُ دُونَ رادِع، أَن يَرى وَصايا الله ثقيلةً، فَلا يُريدُ أن يقرأ عنها ولا أن يَسمَعَ عنها. وَلَعَلَّ أكثرَ المُطالِبِينَ مِن أبنائِنا بالعَلمَنَةِ لا يَفعَلُونَ ذٰلِكَ عَن وَعْيٍ وقَناعَةٍ، بَل مِن مُنطَلَقِ الفُسُوق. إنّهم يُرِيدُونَ أن يَطرُدُوا الله مِن حَياتِهِم. يُرِيدُونَ أن يَرتاحُوا مِن صَوتِه وَمِن سُلطَتِه. يُرِيدُونَ أن يَقبَعُوا في ظُلْمَةِ أعمالِهِم الشرِّيرة، لذٰلِكَ يَكرَهُونَ نُورَهُ وَبَهاءَ حُضُورِه
ج- أمّا الأشنَعُ مِمّا ذُكِر، فَهُوَ الإلحادُ الّذي عادَ يَتَسَرَّبُ إلى عُقُولِ النّاشئةِ شيئًا فشيئًا. وعند الكثيرِينَ منهم أنَّهُ رَدِيفٌ لِلعَلمَنَة. بِما أنّنا طَرَدْنا اللهَ مِن حياتِنا وتحرَّرْنا مِن نِيرِ وَصاياه، فَبِإمكانِنا أن نَعِيش كما نَرغَب. دِينُنا أَهواؤُنا.
        أَرَأَيتِ أيّتُها الأُمُّ كَم أنَّ مهمَّتَكِ باتَتْ أَصعَب؟ ليسَ واجِبُكِ أن تهتمّي بِصِحَّةِ وَلَدِكِ، وتِعليمِه، ونجاحِهِ المَعيشِيِّ فَحَسْبُ، وإنّما علَيكِ السَّهَرُ على إكسابِهِ المَنَاعَةَ ضِدَّ الأوبئَةِ الرُّوحِيّةِ الخطيرةِ الّتي اسْتَشْرَتْ في مجتمعِنا المُعاصِر.
        إيّاكِ أن تَسْتَعفي مِنَ المُهمّة، فَلَرُبَّما تَكُونِينَ الوحيدةَ القادرةَ على القِيامِ بها، رُغمَ شُعُورِكِ بالضَّعفِ والنَّقْص.
        وإيّاكِ أَنْ تَتَخَلَّي عَن دَورِكِ القِيادِيِّ الإرشادِيّ التَّوجِيهِيّ. كُونِي دائمًا صوتًا مُدَوِّيًا في ضَمِيرِ أَولادِك، يَقُولُ الحَقَّ وَيَشهَدُ لَهُ. فَحتّى وَلَو ظَنَنتَ أنَّهُم لا يَسمَعُونَ، أو لا يَقتَنِعُون، كَلِماتُكِ تَنحَفِرُ حَفْرًا في نُفُوسِهِم، وَلا بُدَّ لَها أنْ تُوقِظَهُم يَومًا.
        أَيَّتُها الأُمّ، لا تُفَرِّطِي بِفَلَذاتِ كَبِدِك.. لا تَهدُرِي أغراسًا لَها نَصِيبٌ أن تُصبِحَ، إذا ما اعتُنِيَ بها، أشجارًا باسِقَةً في فِردَوسِ الله الخالد.