الصّوم- أسئلة وأجوبة

    أَيُّها الإخوةُ الأحِبّاء،
    أَشكُرُ اللهَ الّذي أَهَّلَني للمُثُولِ بَينَكُم في هذا المساءِ المُبارَك، وأرجو أن أتمكَّنَ مِن قَولِ شَيءٍ يُفيدُكُمْ وَيُغَذِّيكُمْ رُوحِيًّا.
    موضوعُ الصَّوم، كما تعرِفون، موضوعٌ أساسِيٌّ، وَمِحْوَرُ اهتمامٍ عندَ كُلِّ الآباءِ والمؤمنين عبرَ العُصور. فَلا شَكَّ في أنَّ ما قِيلَ فيهِ كَثيرٌ كَثير، وأنَّني لَن أُضِيفَ إلى ما قِيلَ شيئًا جديدًا. لكنَّني حاولتُ أن أَقطِفَ لكم باقةً مِنَ الأفكارِ المُفيدةِ في هذا الموضوع، وَصُغْتُها بِشَكْلِ أَسئلةٍ وأَجوِبة، أَتلوها على مَسامِعِكم، وَأُتِيحُ لَكُمْ بعدَها أن تسألُوا ما شئتُمْ مِنَ الأسئلة.

1    لِماذا نَصومُ عن الأطعمة؟ ألا يكفي أن "نصومَ لِسانَنا"، وأن نعمل أعمالَ الخير؟
    هذا السُّؤالُ يَفتَرِضُ أن لا عَلاقةَ بينَ نفسِ الإنسانِ وجَسَدِه. وبناءً عليه، يُمكنُ للإنسانِ أن يكونَ صالحًا، وذا إرادةٍ قويّة، وضميرٍ طاهر، بِغَضِّ النَّظَرِ عن أعمالِ الجَسَد. 
    ولكنْ، في الواقع، لا يمكنُ للنَّفسِ أن تستقلَّ عنِ الجَسَد. وكُلُّ حَرَكَةٍ مِن حركاتِ الجسدِ تنعكسُ سَلْبًا أو إيجابًا على النَّفس. إذا أردتَ أن تُدَرِّبَ نفسَكَ على الشُّعورِ بالرَّحمة، وأن تُقَوِّيَ ضميرَكَ في طريقِ الصَّلاح، وأن تَلْجُمَ لِسانَك، وأن تُقَوِّيَ إرادتَك، فَجِسْمُكَ لَهُ دَورٌ كَبيرٌ في كُلِّ ذلك. وإذا لم تُعْطِهِ أهمِّيَّةً في التّدريب، كان عائقًا كبيرًا يَحُولُ دُونَ تحقيقِ تلك الخيرات. "الجسد يشتهي ضدّ الرّوح، والرّوح ضدّ الجسد، وهذان يقاوم أحدُهما الآخَر حتّى تفعلون ما لا تريدون" (غلاطية 17:5).
    مِنْ هُنا أَقُولُ لِمَنْ يَسألُونَ سُؤالاً كهذا: لا يُمكنُ أن يَصُومَ لسانُكُمْ عَنِ الكَلامِ القَبيحِ إنْ لم تَحْرِمُوهُ مِنَ المأكولاتِ الشَّهِيَّةِ والدَّسِمة. ولا يُمكنُ أن تَعمَلوا عَمَلَ الخَيرِ كَما يَجِبُ، إنْ لَمْ تَتَواضَعُوا بالصَّومِ، شاعِرِينَ بِشَيءٍ مِنَ الضَّعَفِ، وشَيءٍ مِنَ المَسكَنَةِ، لكي تَشعُروا بالإنسانِ الآخَرِ المِسكين. إِنْ بَقِيَتْ شَهْوَةُ الطَّعامِ مُسْتَبِدَّةً، فَإِنَّ الإنسانَ يُصبِحُ خادِمًا لِبَطْنِهِ، فَيَصْرِفُ قسمًا كبيرًا مِن وقتِهِ في تلبيةِ رَغَباتِه، وَيَعتادُ على الأنانِيَةِ والتَّركيزِ على نفسِه. كُلُّ هذا، يُضعِفُ التِفاتَهُ نحوَ الآخَر.
    يقولُ الرَّبُّ لَنا، عَبْرَ قَولِهِ لِتَلاميذِه إنَّ الشَّيطان "لا يُمكنُ أن يخرُجَ بِشَيءٍ إلاّ بالصَّلاةِ والصَّوم" (مت 21:17؛ ومر 29:9). ويقولُ القدّيسُ غريغوريوس رئيس متوحِّدِي قبرص: "الكبيرُ البَطنِ أحلامُهُ الرَّديئةُ تُكَدِّرُ قلبَه، والّذي يُنْقِصُ مِن أَكْلِهِ يصيرُ في كُلِّ وقتٍ منتبهًا. لأنْ مِثلَما يُظْلِمُ الجَوُّ مِنَ الضَّباب، كذلك يُظلمُ العقلُ إذا امتلأ البطنُ من المأكولات". ويقولُ القدّيسُ يوحنّا كاسيان: "حينما تمتلئُ المعدةُ بكلِّ أنواعِ الطّعام، فذلك يُوَلِّدُ بُذورَ الفِسقِ. والعقلُ حينما يُخنَقُ بِثِقَلِ الطَّعام، لا يقدرُ على توجيهِ الأفكارِ والسَّيطرةِ عليها. فليسَ السُّكْرُ مِنَ الخمرِ وحدَهُ هو الّذي يُذْهِبُ العقل، لكنَّ الإسرافَ في كُلِّ أنواعِ المَآكِلِ يُضعفُه، ويجعلُه مُتَرَدِّدًا، وَيَسْلُبُهُ كُلَّ قُوَّتِهِ في التّأمُّل النَّقِيّ". ويقولُ القدّيس يوحنّا الأسيوطيّ: "الصّوم بالنّسبة للشّهواتِ كالماءِ بالنّسبة للنّار".
2    هناك مَن يعمل "رِيجيم". فهل هذه قداسة؟
    هناكَ أنواعٌ كثيرة من الرّيجيم، منها، مَثَلاً:
    الرّيجيم الّذي يَخضَعُ لهُ مريضٌ يُعاني مِن مرضٍ معيَّن؛ وهدفُهُ الصِّحّة.
    الرّيجيم الّذي يتّبعُهُ مَنْ يُريدُ أن يتخلَّصَ مِنَ الوَزنِ الزّائد؛ وهدفُهُ المحافظة على جَمالِ الجَسدِ ورشاقَتِه.
    الرِّيجيم الّذي يلتزمُ بِهِ رِياضِيٌّ يُمارِسُ ألعابَ القوى، يُريدُ أن يزيدَ وزنَه؛ وهدفُهُ إحرازُ بُطولة.
    وهناكَ مَن يمتنعُ عن أطعمةٍ معيَّنةٍ مدى الحياة، لا لِمَرَضٍ، ولا لِرَشاقَةٍ، بل لِنَظَرِيّاتٍ مِن هُنا أو مِن هُناك، فيَحْرُمُ نفسَهُ مدى الحياةِ مِن مأكولاتٍ شهيَّةٍ طَيِّبة، مِن دون هَدَفٍ روحيٍّ نبيل.
    كُلُّ هذا جَيِّدٌ، إِلاّ أنَّهُ ليسَ بِقَداسَةٍ، لأنَّ أهدافَهُ دُنْيَوِيَّةٌ، مادِّيَّةٌ، أَرْضِيّة. ولكنْ، إذا كانَ النّاسُ، في سبيلِ أهدافٍ دُنْيَوِيَّةٍ، يَصومُونَ وَيُجاهِدُونَ كُلَّ هذا الجِهاد، أَفَلا ينبغي أن نَصُومَ نحنُ في سبيلِ ملكوتِ السَّموات؟
    إعتَبِروا الصَّومَ نوعًا مِن أنواعِ الرّيجيم -وهو كذلك، لأنّهُ نظامُ تغذِيَةٍ مَدْرُوسٌ- إِلاّ أنّهُ يختلف عن كلّ الأنواعِ الأخرى، لأنَّ هدفَهُ مختلف. فَهَدَفُهُ ضَبْطُ الشَّهَوات، وقَمْع متطَلِّباتِ الجَسَد، وُصولاً إلى نَشاطِ الرُّوحِ وجَمالِها وَرَشاقَتِها.

3    الصَّوم يؤذي الجسد، ويُسَبِّبُ آلامًا ومشاكل صحّيّة. أليسَ هذا ضِدَّ إرادةِ الله؟
    ليس الهدَفُ مِنَ الصّومِ احتِقارَ الجَسَد وهَدْمَ الصِّحَّة. لذلك لا يُنصَحُ بأن يصومَ الإنسانُ على هَواه. علينا أن نبقى تحتَ خيمة الكنيسة، وصومُ الكنيسة صومٌ مدروسٌ وغيرُ قاسٍ. أمّا مَن شعر بأنّ عندَهُ إمكانيّة زيادة نسبة الصّوم، فعليه أن يقومَ بذلك بإشراف مرشدٍ روحيٍّ خبير.
    بالإجمال، في الصّوم نأكُلُ، ولكنّ كَمِّيّةَ ما نأكله ونوعيَّتَه محدودتانِ بحيثُ تغطِّيان حاجةَ جسدِنا لِيَسْتَمِرَّ في الحياة. نأكل ما يَلْزَمُ لِنَعيش، لا أقَلَّ ولا أكثر. لا أقلَّ، لئلاّ نموت، ولا أكثر، لئلاّ نسترخي ونتكاسل ونستسلم للشّهوات.
    في غالِبِيَّةِ الأحيان، نحنُ نَمرضُ مِنْ كَثرةِ الأكل لا مِنْ قِلَّتِه. التُّخمَةُ هِيَ الّتي تُسَبِّبُ مَشاكِلَ صِحَّيَّةً. المآكِلُ الدَّسِمَةُ تُسَبِّبُ عددًا كَبيرًا مِنَ الأمراض. مِن هُنا أَرُدُّ السُّؤالَ للسّائلِينَ وأقول: أليسَ هذا ضِدَّ إرادةِ الله؟ أليسَ الإفراطُ في تَناوُلِ الأطعمةِ إِرهاقًا للجِهازِ الهَضْمِيّ، وإثقالاً للجسم، وإبطاءً للهِمّة؟ أليسَ هذا ضِدَّ إرادةِ الله؟
    لماذا لا نَسألُ عن إرادةِ اللهِ وَمَرْضاتِه، إلاّ عندما يتعلَّقُ الأمرُ بالانقطاعِ عن الطَّعام؟ الواقِعُ أنَّنا نبحثُ عَمّا يُرْضِي شَهَواتِنا، لا عَمّا يُرْضِي الله.
    فكثيرًا ما نسألُ الكاهن: لماذا علينا أن نصومَ قبل المُناوَلةِ المقدَّسة؟ وهل يُعتَبَرُ خطيئةً أن نتناولَ ونحنُ غيرُ صائمِين؟ وَلماذا نَصومُ قَبلَ عيدِ الفصح؟ ولماذا نصومُ قبل عيدِ الميلادِ؟ ولماذا نصومُ قبلَ عيدِ رُقادِ السَّيِّدة؟ ولماذا نَصومُ قبلَ عيدِ الرَّسُولَين بطرس وبولس؟ ولماذا نصومُ في كلِّ أربعاء وجُمعة على مدار السَّنة؟ أليسَ هذا كثيرًا؟
    نَصومُ قبلَ المُناوَلَة، لأنَّ المسيحَ قال: "ليسَ بالخُبزِ وحدَهُ يحيا الإنسان، بَل بكُلِّ كلمةٍ تَخرجُ مِن فَمِ الله" (مت 4:4)؛ وقال أيضًا: "أنا هُوَ الخُبزُ الحَيُّ الّذي الّذي نزلَ مِنَ السَّماء. إنْ أكلَ أحدٌ مِن هذا الخبزِ يَحيا إلى الأبد. والخبزُ الّذي أنا أُعطيهِ هُوَ جَسَدي الّذي أَبذُلُهُ مِن أجلِ حياةِ العالَم" (يو 51:6). نصومُ قبلَ المُناوَلَة، تعبيرًا عن إيمانِنا بالمسيح، أنَّهُ هُوَ غِذاؤُنا، وأنَّهُ هُوَ مطلوبُنا، وأنَّ بِضْعَ لُقَيماتٍ مِنَ الطَّعامِ الفاني ليست هِيَ المطلوبةَ لإعطائِنا الحَياةَ، بَلِ الخَلاصُ النّابِعُ مِنْ صليبِ المسيحِ، والّذي نُشارِكُ فيه عَبْرَ المُناوَلةِ الإلهيّة، هُوَ الّذي يُورِثُنا الحَياة الّتي لا تَزول.
    نَصومُ قبلَ كُلِّ قُدّاسٍ، لكي نَقِفَ في الكنيسة مُرتاحِينَ، غيرَ شاعِرِين بأَيِّ ثِقَلٍ جَسَدِيّ، ولكي نتمكّنَ من التَّركيزِ على ما يُقالُ والمُشارَكَةِ  بِما يُنْشَدُ، بِذِهْنٍ صاحٍ مُتَنَبِّهٍ مُتَيَقِّظ. وَلأنَّنا لا نُريدُ أن نقومَ بأَيِّ نشاطٍ قَبْلَ استِقبالِ المَلِكِ في قُلُوبِنا، فإذا استَقْبَلْناهُ، انصَرَفْنا إلى أُمُورِ حَياتِنا بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّة.

4    هل الصّوم يُساهم في الخلاص؟
    الخلاص تمَّ بعملِ المسيح الفدائيّ فقط، وليس نتيجة أيِّ عملٍ من أعمالِنا. ولكنْ، ليست المشكلةُ هنا، بل: كيف أُعِدُّ نفسي لاستقبال المسيحِ المُخَلِّص؟ ألا أسهر؟ ألا أُهَيِّئُ ثُوبًا لائقًا لنفسي؟ الصّوم هو إحدى أهمِّ الوسائل لتهيئة النّفس.
    إذا كان المسيحُ هو المُخَلِّصُ والفادي، فهذا لا يعني أنْ لا عَمَلَ لنا. هُوَ مُخَلِّصُ الخاطئ إذا تاب.
    إذا أردتُ الدُّخولَ إلى عُرسِ المسيح (الملكوت)، فأنا مَدعوٌّ (أي المسيح قد افتداني)، ولكن، قد لا يُسمحُ لي بالدُّخول إذا لم تكن ثيابي لائقة  (أي إذا كنت ملطَّخًا بالخطايا).
    علينا أن نكونَ حريصين عند استعمال كلمة "الخلاص". فهي ليست بِدُعابةٍ نلهو بها على هَوانا. إنّه عملٌ إلهيٌّ عظيم. إنّهُ خلقٌ جديد. أُعجوبةٌ جديدة. المسيح هو الّذي أَتَمّها. المُبادَرةُ إلهيّة. هذا ثابت، وواضح، ومُتَّفَقٌّ عليه. ولكنّ المسيحَ لم يأتِ ليخلِّص "آلاتٍ" جامدةً لا إحساسَ عندها ولا إرادة. قَولُنا "المسيحُ خلَّصَنا بدَمِه" لا يعني أنّنا مُخَلَّصُونَ تلقائيًّا؛ بل يعني أنَّهُ أرانا الطَّريقَ الّتي إذا سَلَكْناها نَخْلُص: الصَّليب.
    "خَلَّصَنا" بصيغة الماضي، ولكن ليس المقصود أنَّ العمليّة قد أُنجِزَتْ، بل يعني أنّ إنجازَها قد بدأ، ولكي تُنجَزَ هناكَ شَوطٌ كبيرٌ، لَنا فيه دَورٌ أساسيّ.
    نُشاركُ في صليبِ المسيح: بالمعموديّة (مرّةً واحدةً في حياتِنا)؛ وبالجِهادِ ضدَّ الأهواء، وتربيةِ النّفسِ على اقتناءِ الفضائل (كُلَّ يومٍ لمدى الحياة). وكُلُّ حديثٍ عن الخلاصِ بدون معموديّة أو بدونِ صوم وصلاةٍ وجهادٍ روحيّ، هو تسخيفٌ للدّين المسيحيّ، وموقفٌ وَقِحٌ منَ اللهِ وتدبيرِهِ الخلاصِيّ.

5    هل وَرَدَ في الإنجيل أنَّنا يجبُ أن نصوم؟ وإذا كان الجواب "نعم"، فهل حدَّدَ المسيحُ فتراتٍ معيَّنة لنصومَ فيها؟
    أ- الشِّقُّ الأوَّلُ من السُّؤال، أُجيبُ عليهِ بأنَّ الكتابَ، بعهدَيه، لم ينقطعْ عن ذكرِ الصَّوم وحَسَناتِه. وتاريخُ الصَّومِ لا يَعُودُ إلى أيّام الأنبياءِ وحَسب، وَلا إلى ناموسِ موسى وحَسب، بل هُوَ مِن عُمْرِ الإنسانيّةِ نفسِها على حَدِّ تعبيرِ القدّيسِ باسيليوس الكبير، حيثُ يقول: "الصَّومُ هُوَ مِنْ عُمْرِ الإنسانِيَّةِ نفسِها. لقد شُرِّعَ لهُ في الفردوس. إنَّ آدَمَ هُوَ الّذي تقبَّلَ الوَصِيَّةَ الأُولى للصَّوم: ]مِن ثَمَرِ شَجَرَةِ معرفةِ الخيرِ والشَّرِّ لا تأكُلْ[. العبارة ]لا تأكُلْ[ ما هي إلاّ شريعةُ صَومٍ وإمساك". ويقولُ القدّيسُ يوحنّا الذَّهَبِيُّ الفَم: "لَمّا أَبدعَ اللهُ الإنسانَ الأوَّل سَلَّمَهُ إلى أيدي الصَّومِ لِيَضبطَهُ ويهتمَّ بِخَلاصِه،كأبٍ مُحِبٍّ لأولادِه، أو مُعَلِّمٍ حازم، بِقَوله: مِن كُلِّ ثَمَرِ أشجارِ الفردوسِ تأكلُ، أمّا شجرةُ معرفةِ الخيرِ والشَّرِّ فلا تأكلْ منها البتّة. أَفَلَيسَ هذا شكلاً من الصَّوم؟ فإذا كان الصَّومُ في الفردوسِ ضروريًّا، فكم بالحَرِيِّ يُصبحُ أكثر ضرورةً خارجَ الفردوس! ... إنَّ معونةَ الصّوم ضروريَّةٌ لنا جِدًّا. ولو سَمِعَ آدَمُ هذا الصّوتَ من الله وأطاعَهُ، لَما سَمِعَ بَعْدَهُ الصَّوتَ الثّاني: إنّكَ تُرابٌ وإلى التّرابِ تعود... أرأيتُم كيف يغضبُ اللهُ عندما يُهانُ الصَّومُ وَيُحتَقَر؟ وها هُوَ لَمّا أُهِينَ أَعطى لِمَنْ أَهانَهُ عاقِبَةَ المَوت".
    - ثُمَّ إِنَّ كُلَّ الأعمالِ العظيمة كانَ يَسبقُها صَومٌ. وعلى سبيلِ المِثالِ لا الحَصر:
    موسى لم يَجرؤ على الاقترابِ من جبلِ سيناءَ المُدَخِّن، والدُّخولِ في الغَمام لو لم يتسلَّحْ بالصَّوم (خر 18:24)؛ ولم يتسلَّمِ الوصايا المكتوبة على لوحَينِ حَجَرِيَّين بإصبعِ الله، إلاّ بعد أن صام (خر 18:31). ثُمّ، عند إعطاء الوصايا مرَّةً ثانية، يقول النَّصّ: "وكان هناكَ عند الرَّبِّ أربعينَ نهارًا وأربعينَ ليلةً لم يأكلْ خُبزًا ولم يشربْ ماءً. فكتبَ على اللَّوحَينِ كَلماتِ العهدِ، الكَلِماتِ العَشْر" (خر 28:34).
    إيليا النَّبِيُّ عاينَ اللهَ، وحبسَ السَّماءَ فَلَمْ تُمْطِرْ لِمُدَّةِ ثلاثِ سِنين وستّة أشهر، وأقامَ صَبِيًّا مَيْتًا. ولكنْ متى؟ بعد أن صامَ صَومًا طَويلاً (1مل 17...).
    يسوعُ صام، بعد اعتمادِه، أربعين يومًا، واجَهَ بعدَها تجاربَ إبليس (مت 4)
    حَنَّةُ النَّبِيَّةُ، بنتُ فَنُوئيل، تكلَّمَ عنها لوقا: "نحو أربعٍ وثمانين سنةً لا تفارقُ الهيكل عابدةً بأصوامٍ وطلباتٍ ليلاً ونهارًا" (لو 37:2)، سَبَّحَتِ الرَّبَّ لَمّا قُدِّمَ المسيحُ إلى الهيكل، وراحت تتكلَّمُ عنه مع جميعِ المُنتظرين فداءً في أورشليم.
    - المسيحُ تكلَّمَ عن موضوعِ الصّوم كموضوعٍ أساسيٍّ في عظتِه على الجَبل (متّى 16:6- 18).
    ب- أمّا الشِّقُّ الثّاني من هذا السُّؤال، أي تحديدُ فتراتِ الصَّوم، فَأُجِيبُ عليهِ، قبلَ الإحالَةِ على الإنجيل، بالسُّؤال: وإذا لم تُحَدِّدْ لكَ الكنيسةُ فتراتٍ معيَّنة لتصومَ فيها، فمتى تَصوم؟ ومَعَ مَنْ تَصوم؟ فإذا كان الجواب: "أصومُ عندما أشعُرُ أنَّني بِحاجة إلى ذلك"، أُجيب: وَلْنفترضْ أنّكَ لم تشعُرْ بهذه الحاجة؟ فالمُتَكَبِّرُ مَثَلاً لا يَنزعجُ مِن تَكَبُّرِه، ولا يَشعُرُ بِضَرُورَةِ مُحارَبَتِه...؛ أو فَلْنَفْتَرِضْ أنّكَ مَرَرْتَ بفترةِ ضيقٍ وشعرتَ بالحاجةِ إلى الصَّوم، فما نوعُ الصّوم الّذي تتبعُه؟ وما مُدَّتُه؟؛ وَلْنَفترِضْ أنَّكَ صُمْتَ فِعلاً عندما شعرتَ بالحاجةِ إلى الصَّوم.. صُمتَ فردِيًّا.. فَماذا يمنعُكَ من أن تصومَ معَ الجماعة؟ ألا يُمكنُكَ أن تفعلَ الاثنَينِ معًا؟
    هَلِ الدِّيانةُ فَرْدِيَّةٌ إلى هذا الحَدّ؟ أَلَيسَ هُناكَ جَماعة؟ أَلَيسَ هُناكَ آباء؟ أَلَيسَ هُناكَ قَوانين كَنَسِيّة؟ أَلَيسَ هُناكَ كنيسة؟
    فَإذا عُدْنا إلى الكِتابِ المُقَدَّس، وَجَدْنا الصَّومَ الجَماعِيَّ مَعروفًا جِدًّا، سواءٌ في أوقاتِ المِحَن، كما جرى مع شعبِ نينوى، الَّذِينَ صامُوا ولَبِسُوا المُسُوح، لكي يُعَبِّرُوا عن تَوبتِهم، فَيَصرِفَ اللهُ غَضَبَهُ عنهم (يونان5:3- 10)؛ أَمْ قبل القِيامِ بِعَمَلٍ مُقَدَّس، كَصَومِ شعبِ أنطاكية مِن أجلِ أن يُلْهِمَهُم الله على مَنْ يُفْرِزُونَهُ للتَّبشير، فأفرزوا برنابا وشاول (أع3:13)، وَصَوم كُرنيليوس قائد المئة مِن أجل أن يُلهِمَهُ اللهُ الدِّيانةَ الصَّحيحة، فأرسَلَ إليه بُطرس (أع30:10...).
وكانت هُناكَ دائمًا أَصوامٌ ثابتةٌ، مُحَدَّدَةُ التَّواريخ، مثلاً:
    ** "هكذا قالَ رَبُّ الجُنود: إنَّ صومَ الشّهرِ الرّابعِ وصومَ الشّهرِ الخامس وصومَ الشّهر السّابع وصومَ الشّهر العاشر..." (زكريّا19:8). إذًا، هناكَ عدَّةُ أصوامٍ مُحَدَّدة، على مدارِ السَّنة.
    ** "... إِذْ كان الصَّومُ قد مَضى..." (أع9:27). يُشِيرُ كاتبُ أعمالِ الرُّسُل إلى فترةِ صَومٍ مُحدَّدة.
    ** "... لكي تَتَفَرَّغُوا للصَّومِ والصَّلاة..." (1كُور5:7). يحسَبُ الرَّسولُ حِسابًا للصَّوم كشيءٍ مِن ضمنِ برنامجِ الحياة، لا كشيءٍ عارِض.
    فَإذا كانَ رُسُلُ المسيح يَصُومُونَ في أوقاتٍ مُحَدَّدة، فهذا يعني أنَّهُمْ تَسَلَّمُوا منه ذلك. لأنَّهم لم يخترعوا شيئًا مِن عندِهم، بل سَلَّمُوا إلينا ما تَسَلَّمُوهُ مِنَ الرَّبّ.

6    لماذا نَصومُ عن اللُّحوم وعَنِ البَياض؟
    هذه المأكولاتِ ثقيلةٌ، وَتُسَبِّبُ للجهاز الهضمِيِّ ثِقَلاً وَجُهدًا كَبيرَين، بينَما البُقُولُ والحُبُوبُ تُهضَمُ بِسُهُولَة. ونحن، في فترة الصَّوم، نرغَبُ في أن نشعرَ بِخِفَّةِ أجسادِنا، لذلك لا نُثقِلُها بالمآكِلِ الدَّسِمة. وَمن هذه النّاحية، ولكي نُحَقِّقَ هذا الهَدَفَ نفسَهُ، علَينا أَلاّ نُكْثِرَ مِنَ الطَّعام المسموح به، وإلاّ وقَعْنا في المُشكِلةِ نفسِها. فإنْ كانت كَمِّيَّةٌ قَليلةٌ مِنَ اللَّحمِ تُثْقِلُ المَعِدة، فكَمِّيَّةٌ كبيرةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ مِنَ المأكولاتِ غير الزَّفَرِيّة تفعل الشَّيءَ نفسَه.
    وَمِنْ جِهَةٍ ثانية، نحن نُحاولُ في فترةِ الصَّوم، أن نتذكَّرَ الفِردَوسَ الّذي سَقَطْنا منه بِسَبَبِ المَعصِية. ولذلك، نُحاوِلُ أن نعيشَ، ولو مُؤَقَّتًا، في وَضْعٍ مُشابِهٍ لِوَضعِ الإنسانِ الأوَّل. ذلك، أنَّ ذلك الإنسان خُلِقَ نَباتِيًّا، وكان لا يذبحُ الحيوانات ولا يأكلُ مِن لحومِها، ولا يغتذي مِن لَبَنِها. وبعدَ أن سقطَ وطُرِدَ مِنَ الفردوس، شَرَّعَ لَهُ اللهُ قتلَ الحيوانات وأكلَ منتوجاتِها ولُحُومِها. وَمِنْ هذا المُنطَلَق، في خلالِ فترةِ الصَّوم، نمتنعُ عن أكلِ منتوجاتِ الحيواناتِ، مِن ألبانٍ وأجبانٍ وَبَيضٍ، كَما نمتنعُ عن أكلِ لُحُومِها، مُتَوقِّفِينَ، تالِيًا، عَن قَتْلِها، لا لأنَّ قَتْلَها خطيئةٌ، بل لأنَّنا نَحِنُّ إلى الفردوس، ونُعَبِّرُ عن رغبَتِنا في العَودَةِ إليه. لذلك، المسيحيُّ لا يُمارِسُ هِوايةَ الصَّيدِ في فترةِ الصَّوم. فلا يكفي أن لا تأكلَ لحمَ العصفور، بل عليكَ أن لا تقتلَهُ في هذه الفترة. أي، عليكَ أن تعيشَ في سَلامٍ مع الطَّبيعة، ولَو لِفَتْرَةٍ مُحَدَّدة.

7    لِماذا ننقطعُ عنِ الطَّعام إلى الظُّهر؟ ألا يكفي أن نمتنعَ عن الأطعمةِ الزَّفَرِيّة؟
    ليس مِن صَومٍ بِلا انقطاع. الصَّومُ، أساسًا، هُوَ انقطاعِ عن تَناوُلِ أيِّ شَيء. وقد كان، أوَّلاً، حتّى الغروب، أي كان المسيحيّون في القديم يتناوَلُونَ وجبةَ طعامٍ واحدة في اليوم، وكان بعضُهم يتناولُ وجبتَين في الأسبوع، والبعضُ الآخَر يتناولُ وجبةً واحدة في الأسبوع. ولكنْ، ولأنَّ الآباءَ أرادوا أن يُراعُوا النّاسَ وَيُعْطُوهُمْ مِقدارًا مِنَ الصَّومِ هَيِّنًا، قَرَّرُوا أن يستَغنِيَ المسيحيُّ عن وجبةِ الإفطار، ويصومَ حتّى الظُّهر، شَرْطَ أنْ يأكُلَ طعامًا خفيفًا، وقليلَ الكَمِّيَّةِ، وأن يكتفيَ بِنَوعٍ واحدٍ مِنَ الطَّعام.
    ولكنْ، صَومُنا إلى الظُّهر لا يعني أنَّنا، متى حَلَّ الظُّهرُ، صارَ مِن واجِباتِنا أن نأكُلَ بِشَكْلٍ مُتَواصِلٍ حتّى مُنتَصَفِ اللَّيل. بل علَينا أن نكتفيَ، كما قُلتُ، بِوَجْبَةٍ خفيفة، وألاّ نأكُلَ شيئًا حتّى المساء، حيثُ نتناولُ، بعدَ الصَّلاةِ المسائيّة، وجبةً خفيفةً جِدًا، وكفى.
    فَلا يكفي أن نمتنعَ عَنِ الطّعامِ امتِناعًا شَكْلِيًّا، بل عَلَينا أن نمتنعَ عنْ شَهْوَةِ الطَّعام. فإذا صُمْتُ عنِ اللُّحُومِ وأكَلْتُ البُقُولَ بِشَراهَةٍ، لا أستفيدُ شيئًا. عليَّ أن أُحارِبَ شَراهَتي. وفي هذا يقولُ القدّيس فيلوكسينوس: "كُلُّ شيءٍ يُوضعُ على المائدة وتَرى أنّ عينَيكَ تشتهيه لا تأكُلْهُ".
    وأَعُودُ إلى قضيَّةِ الانقطاعِ عَنِ الطَّعام، لأقولَ إنَّ شُعُورَنا بالجُوعِ والتَّعَبِ مِن جَرّاءِ خُلُوِّ المَعِدة، لَهُ حَسَناتٌ كثيرة، مِنها أنَّ الإنسانَ يتذَلَّلُ، ويتذَكَّرُ ضُعْفَهُ، وَيَنكَسِرُ أمامَ الله، وَيَسْهُلُ علَيهِ أن يعترف، مُحارِبًا الكِبرياء الّتي فيه. وَمِنها أيضًا أنَّ الأهواءَ تَبرُدُ وينطفئُ لهيبُها ويشعُرُ الصّائمُ بِسَلامٍ وَهُدُوءٍ داخِلِيَّين، وَيَرْبَحُ فُرْصَةً لإصلاحِ نفسِهِ، وَمُحارَبَةِ شَهواتِهِ الرَّديئة، واكتِسابِ الفضائل. وَبهذا المعنى يقولُ القدّيس إيرونيموس: "ليس لأنَّ اللهَ الرَّبَّ وخالقَ الكَونِ يجدُ منفعةً في قَعْقَعَةِ أمعائِنا وَخُلُوِّ مَعِدَتِنا والْتِهابِ رِئَتَينا، ولكنْ لأنَّ هذه هي الوسيلةُ لِحِفْظِ العِفّة".

8    الصَّومُ مرتبطٌ بالصَّلاة
    وَفي الختام، أَوَدُّ أن أُؤَكِّدَ على أنّ الصَّومَ بِدُونِ صَلاةٍ لا يكفي، كما أنّ الصَّلاةَ بِدُونِ صومٍ لا تكفي. يقول المغبوط أغسطينوس: "كما أنّ الهيكلَ الّذي بَناهُ سليمان أقام فيه مذبحَين، أحدُهما من خارجٍ حيثُ كانت تُقَدَّمُ عليه ذبائحُ المحرقة، والآخَرُ من داخلٍ حيث القُدس، وهو مذبحُ البخور، هكذا يلزمُ الإنسان الّذي هو هيكلٌ للرُّوحِ القدس، أن يكونَ فيه مذبحان: الواحدُ داخليٌّ وهو القلب حيث يُقدِّمُ بخورَ الصَّلاةِ وعِطرَها كقَولِهِ تعالى إذا صَلَّيتَ فادخُلْ مُخدَعَكَ أي قلبَكَ؛ والمذبحُ الآخَرُ خارجيٌّ حيثُ يُقدِّمُ عليه الجسدَ كذبيحةٍ بواسطةِ الصّوم وصُنُوفِ التَّقَشُّفِ والنُّسك".