سلّم الفضائل

مناسبة وضع الكتاب:
موضوع حديثِنا اليوم كتاب "السُّلَّم" للقدّيس يوحنّا السينائيّ (523- 603) الّذي اشتُهِرَ بهِ إلى حدّ تلقيبِه بـِ "السُّلَّميّ" (كليماكوس). وضعَهُ إبّانَ رئاستِه لدير جبل سيناء، وكانَ شيخًا متقدِّمًا في السّنّ، نزولًا عند طلب الأب يوحنّا رئيس دير رايثو، الّذي كتبَ إليه  رسالةً، إليكم بعضًا ممّا جاءَ فيها:
"... نَطلُبُ منكَ كأستاذٍ عظيمٍ بالحقيقة أن تشرحَ لنا الأمورَ اللازمةَ للحياةِ الرُّهبانيّةِ شرحًا واضحًا لخلاصِ الّذينَ اختاروا هذه السِّيرةَ الملائكيّة... ونثقُ  بأنّنا سنحظى بأمنيتنا سريعًا بنعمةِ الرّبّ، ونرجو مصافحةَ كتاباتِكَ الكريمةِ المحفورةِ على ألواح، الّتي ستكونُ مرشدًا حقيقيًّا لمن يبتغونَ اتّباعَها باستقامةٍ، وَسُلَّمًا ممتدَّةً إلى أبوابِ السَّماء، تنقلُ بأمنٍ وسلامٍ مَن يُؤثِرونَ النّجاةَ من الأرواحِ الشرّيرةِ وسلاطينِ الظّلام ورُؤساءِ الـهواء (أف 12:6). فإنْ كان يعقوب، وهو راعي خراف، قد عاين على هذه السلّم رؤيةً رهيبة، فما حالُ راعي الخرافِ النّاطقة الّذي غدا للجميعِ الدّليلَ الأمينَ للصُّعودِ إلى الله، لا بالرؤيةِ وحسب، بل بالعملِ أيضًا!
وَمِـمّا جاءَ في جواب يوحنّا:
"لَولا الخوفُ والخطرُ الكبيرُ من خلعِ نيرِ الطّاعة المغبوطة، أمّ الفضائل بأسرِها، لما تجاسرْنا بِغَباوةٍ وأقدَمْنا على القيامِ بما يتجاوزُ قُدرتَنا. فبما أنّ آباءَنا المتوشّحينَ بالله قد حدّدوا الطّاعةَ بأن ينصاعَ المرءُ دونما تفريقٍ ويخضعَ لمن يأمرونَه وينفّذَ ما يفوقُ مقدرتَه، لهذا تركنا بوقارٍ ما نقدرُ عليه، وشرَعنا في ما يتجاوزُ قدرتنا... ولهذا يا أسمى المعلِّمين قد أرسَلْنا هذا الكتابَ إلى رُهبانِكَ المدعوّينَ من الله، الّذين نتتلمذُ وإيّاهم على يَدِك...".
للكتابِ تسمياتٌ أُخرى، مثل: "السُّلَّمُ إلى الله"، و"سُلَّمُ السّماء".

تركيبتُه:
يتألّف كتابُ السُّلَّم مِن ثلاثين مقالةً، يَتناول الكاتبُ في كُلٍّ منها فضيلةً معيّنة، مبتدئًا بالفضائل العمليّة التربويّة الأوّليّة، ومنتهيًا بالفضائلِ التطبيقيّة والنظريّة.
وقد عبّرَ الرّسّامونَ الكَنَسيّونَ عن هذا الكتابِ بأيقونةٍ تَظهرُ فيها سُلَّمٌ مِن ثلاثينَ درجة، مركّبةٌ مِن قسمَين متساوِيَين: سُفلِيٍّ وَعُلْوِيّ. القسمُ السُّفليُّ يختلفُ عن العُلْوِيّ بانحناءٍ طفيف، للإشارةِ إلى أنّ الجهاداتِ الّتي تمارَسُ فيه هي أقلُّ تعبًا؛ والقسمُ العُلوِيّ منتصبٌ بشكلٍ عموديّ، للإشارةِ إلى صعوبةِ الصعودِ عليه وخطرِ الوقوع منه.
وعلى درجاتِه المختلفة يَظهرُ رهبانٌ يحاولون الصّعود، وملائكةٌ يشجّعونَهم، وشياطينُ تعرقلهم... أحدُ المشاهدِ المميّزةِ فيه، راهبٌ يسقطُ من الدّرجةِ السّادسةَ عشرة مِن جرّاءِ ثِقَلِ كيسٍ من النقود رُبِطَ بِعُنُقِه، وفي الأسفل تنّينٌ فاغرٌ فاهُ ليبتلعَه.
وعلى قِمّةِ السُّلَّم راهبٌ شيخٌ يمدُّ يدَيهِ ليأخُذَ إكليلَ النّصرِ من المسيح الواقفِ هناك وقد ارتسمَتْ علاماتُ الفرحِ على وجهه.
لا تقومُ تركيبةُ كتاب "السُّلَّمِ" على أساسٍ هندسيٍّ فكريٍّ عقلانيّ، بل على أساسِ خبرةٍ روحيّةٍ عميقة، عناصرُها الإمكاناتُ الإنسانيّةُ الـمُتفاعلةُ مع النّعمةِ الإلـهيّةِ تفاعُلًا يصيرُ ضمنَ جهادٍ معيَّن، مِلْحُهُ الطّاعةُ والتّواضعُ والـمحبّة. ويـمكنُنا أن نشبّهَ تركيبتَهُ ببِناءِ بيت، يبدأ بالأساس وينتهي بالسَّقف، بغضِّ النّظر عن شكلِه وحجمِه وبساطتِه أو فخامته. وبـهذه الطّريقة يـحاولُ أن يُصَوِّرَ كيفيّةَ البناءِ الرّوحيّ لكلِّ مَن رغبَ في أن يصيرَ راهبًا.

مضمونه:

الزُّهد:
يتكلّمُ القدّيسُ في المقالاتِ الثّلاثِ الأُولى على ضرورةِ تَركِ العالَـم (1) وعدَمُ التَّعَلُّقِ بشيءٍ مِـمّا فيه (2) والتّغرُّبِ عنه (3). ثـمّ يتكلّم على ضرورةِ الطّاعة ويبيّنُ منفعتَها، والأخطارَ الناجمةَ عن فعلِ الإرادةِ الذّاتيّة (4). في الخامسة والسّادسة والسّابعة يعالجُ موضوعَ التّوبة (5)، وَذِكرِ الـموت كنتيجةٍ للتّوبة وكمُحَفِّزٍ للسَّيرِ في طريقِ القداسة (6). ثُـمَّ يخبرنا عن النَّوحِ الّذي يُوَلِّدُ في النَّفسِ فَرَحًا لا يستطيعُ أن يدركَه إلّا مَنِ اختَبَرَه (7).

الأهواء المُحارِبة:
في الثّامنة والتّاسعة والعاشرة يعلّمُنا عن مساوِئ الغضب وحلاوةِ الوداعة (8)، وعن الحقد الّذي هو وَلِيدُ الغَضَب (9)، وعن الوقيعة، أي شتم النّاس وذِكرِهِم بالسُّوء (10).
في (11) يتكلّمُ على كثرة الكلام، كمظهرٍ مِن مظاهر الـمجد الباطل، وعلى الصّمتِ الّذي يُـحَرِّرُ الذِّهنَ ويـحفظُ حرارةَ القلب... ويطردُ الـمجدَ الباطل.
تدورُ (12) حول الكذب الّذي يعتبرُه القدّيسُ، على صِغَرِه، شرًّا كبيرًا، مستشهدًا بِقَولِ النبيّ داود: "وَتُـهلِكُ جَـميعَ الّذينَ يتكلَّمونَ بالكذب" (مز 6:5).
أمّا (13) فتدور حول الضّجر، الّذي يُوَلِّدُ انـحلالًا شاملًا: ارتـخاءً في النُّسك، واشـمئزازًا في السّيرة الرّهبانيّة وتطويبًا لـحياةِ العلمانيّين، وشكوى على الله كفاقد الرّحمة والشّفقة. ينشأ الضجر إمّا مِن تحجُّرِ النّفس، وإمّا مِن نسيانِ الله، وإمّا من الإفراط في التّعب والاهتماماتِ الدّنيويّة، وإمّا بشكلٍ متواترٍ من الشّياطين.
في (14) يعلِّمُنا القدّيسُ عن الشّراهةِ وتأثيرِها السَّيِّئِ في النّفس، لأنّـها تُسَبِّبُ كُلَّ السَّقَطات. وفي (15) يعلِّمُنا عمّا هُوَ عكسُ الشَّراهة، ألا وهو الطّهارة والعِفّة، أنّـهما أساسيّتان وواجبتان لبناء سائر درجات السلّم. نصل إليهما عن طريق الإمساك، والطاعة، والتواضع. يـحتالُ الشّيطان على الـمُجاهدِين فيصوِّرُ لَـهُم اللذَّةَ القبيحة حُلوةً في البداية، بينما مرارتُـها في النّهاية لا تُطاق. وفي (16) يعلّمنا عن مـحبّة الـمال الّتي لا تختلف عن عبادة الأصنام.

متفرّقات:
اللاحِسّ، أي موت النّفس والفكر قبل موت الجسد (17)، وشذرات حول النّوم والصّلاة والتّرتيل الجماعيّ (18)، والسّهر الجسديّ الّذي ينقّي الذّهن وينقذ من التّجارب (19)، والـجُبن، أي الخوف من خطرٍ سابقٍ لأوانِه (20).

التكبّر والتّواضع:
الـمجد الباطل وأنواعُه (21)، منه تتولّد الكبرياء الـحمقاء (22)، الّتي هي أُمّ أفكارِ الـتّجديف الّتي لا تُلفَظ (23). وهناكَ فضائلُ مكتسَبةٌ غيرُ طبيعيّة، هي الوداعة والبساطة والبراءة، يـحدّثنا عنها في (24) وعن الـمكرِ والـمُراءاة. ثـمَّ في (25) يستفيضُ في إظهارِ أهـمّيّةِ التواضع، قارِنًا اِيّاهُ بالتّوبةِ والنَّوح، ومُعطِيًا أمثلةً عمليّة.

فضائل سامية:
(26) بـحثٌ مُسهَبٌ في فضيلة التّمييز، تـمييز الأفكار والأهواء والفضائل، مُوزَّعٌ على ثلاثةِ أقسامٍ كبيرة. (27) بـحثٌ مُسهَبٌ في الـهُدُوءِ الـمُقَدَّس. (28) حولَ الصّلاةِ الـمقدَّسة، أُمِّ الفضائل، وفي القيامِ بـها عقليًّا وحِسِّيًّا. (29) يصلُ قدّيسُنا إلى الكلام على اللاهوى الّذي به نتشبّه بالله، ونعيشُ على الأرض كأنّنا في السّماء. ويُتابعُ مُتكَلِّمًا على الكمال، وعلى قيامةِ النّفسِ قبلَ القيامةِ العامّة. (30) حول الإيمان والرّجاء والـمحبّة.
    وبعد أن أنـهى مقالاتِهِ الثَّلاثينَ حولَ درجاتِ سُلَّمِ الفضائل، ألـحقَ الكتابَ بمقالةٍ (31) وجَّهَها إلى يوحنّا رئيس دير رايثو، الّذي طلَبَ مِنه تأليفَ الكتاب، تكلّم فيها على الرّاعي وصفاتِه، مُوَجِّهًا نصائحَ عمليَّةً عديدة، وخاتِـمًا بالإطراءِ عليه.

خلاصة:
جاءَ كتابُ "السُّلَّم" ثـمرةَ خبرةٍ طويلة في الحياة والنّاس وآرائـهم وعاداتـهم ونفسيّاتِـهم. فمن يقرأ الكتابَ يستنتج أنّ كاتبَهُ يعرف النفس البشريّة معرفةً عميقة، ويـحلّلها تحليلًا دقيقًا يُضاهي علماء النّفس الـمُعاصِرِين. إلى جانبِ ذلك، يَظهرُ الكاتبُ متّزِنَ الشّخصيّةِ سليمَها، يتركُ دائمًا مكانًا للاعتدال إلى جانب الـجِدِّ والصَّرامة، الأمر الّذي جعلَهُ يَبرُزُ بَينَ الـمعلِّمِينَ الرُّوحِيّينَ الأكثرِ إنسانيّةً.
يُعتبَرُ هذا الكتابُ مرجعًا للرُّهبانِ في كُلِّ زمانٍ ومكان، لا سيّما رهبان الشَّرِكة. إلّا أنّه مفيدٌ أيضًا لسائرِ الـمؤمنين. ذلكَ أنّهُ يـحرِّضُ قارئَهُ على التّوبة.. على الصُّعودِ بِنَفْسِهِ مِـمّا هِيَ غارِقَةٌ فيه مِن جَهلٍ رُوحِيٍّ يُبعِدُها عن الله. ولا يكتفي بالنّصائح النَّظَرِيّة، بل يُعطي أمثلةً عمليّةً من الحياةِ اليوميّة.












مختارات مِن كتاب السُّلّم:
- شاهدتُ نفوسًا دنسةً قد انغمسَتْ في عشقِ الأجسادِ انغماسًا شديدًا، وإذ اتّخَذَتْ خبرةَ العشقِ الجسديّ حافزًا لِتَوبَتِها، حوَّلَتْ هذا العشقَ إلى عشقِ الرّبّ، واجتازَتْ حالًا كُلَّ خوف، وتطعَّمَتْ بـمحبّةِ الله الّتي لا يُشبَعُ منها. لذلك لـم يَقُلِ الرَّبُّ عن تِلكَ الفاسقةِ الـحكيمة إنّها قد خافت، بل قد أحبَّتْ كثيرًا (لو 47:7)، واستطاعت بسهولةٍ أن تُفحمَ العِشقَ بالعِشق.
- كـما أنّ قاطِفَ التُّوتِ الـخبيرَ يأكلُ النّاضجةَ منها ويتركُ الفَجّة، هكذا العاقلُ الرّشيدُ يلاحظُ بدِقَّةٍ كُلَّ ما يراهُ عند الآخَرِينَ مِن فضائل... أمّا الـجاهلُ فيفتّشُ عن نقائصِ الآخَرينَ وعيوبِـهم.
- رأيتُ كهنةً شيوخًا تلعبُ بـهم الشّياطين، فيمنحون بركةً لِشُبّانٍ ليسوا تـحتَ طاعتِهم كي يَنقُضُوا صيامَهُم في احتفالاتٍ رسميّة، ويأكلوا ويشربوا مـمّا على الـمائدة. فإذا كان هؤلاءِ الشُّيوخُ مشهودًا لـهم فلْنأكُلْ باعتدال، أمّا إذا كانوا من الـمُتهاوِنِين، فلا نكتَرِثْ لِبَرَكَتِهِم، لا سيّما إذا كُنّا في صراعٍ مع النّار.
- الـمُتكبِّرُ هو رُمّانةً مهترئةٌ من الدّاخل ولَـمّاعةٌ من الـخارج.
- الوَداعةُ سَنَدٌ لِلصَّبر، بابٌ لِلمَحَبّة، أو بالأحرى أُمٌّ لَـها، أساسُ التّـمييز، لأنّ "الرَّبَّ يُعَلِّمُ الوَدِيعِينَ طُرُقَهُ" (مز 9:25).
- إنّه لَـمُستحيلٌ أن يتولّدَ مِن الثّلجِ لَـهيب، وإنّه لأكثرُ استحالةً أن يوجدَ تواضعٌ عند الـهراطقة، لأنّه خاصٌّ بالـمؤمنين والـحسَني العبادة، لا سيّما الأنقياء الّذينَ تطهّروا من الأهواء.
- إنّ الفاسقِينَ يستطيع النّاسُ شفاءَهم، والأشرارَ يشفيهم الـملائكة، أمّا الـمُتَكَبِّرونَ فيشفيهم اللهُ وحدَه.
- كثيرًا ما تكون مظاهرُ الـمحبّة في أن ندعَ قريبَنا أثناءَ زيارتِهِ لنا يتصرّفُ كـما يشاء، ونُظهرَ له بشاشةً وحبورًا.
- الـمؤمن ليس من يظنُّ أنّ الله قادرٌ على كُلِّ شيء، بل الّذي يؤمن بأنّه سينالُ منه كُلَّ شيء.
- الطّعامُ يُصلَحُ بالزَّيتِ والـمِلح، والصّلاةُ تُـجَنَّحُ بالعِفَّةِ والدُّموع.
- يزدادُ الـحصانُ الأصيلُ حـماسةً كُلَّما عدا وطالَ جَرْيُه. فالـجَرْيُ هو التّسبيح، والـحصانُ هو الذِّهنُ الشُّجاعُ الّذي يَشْتَمُّ رائـحةَ الـحربِ مِن بعيد، ويتأهّبُ لـها، ويَلبَثُ غيرَ مُنهَزِم.