التوبة من خلال صلاة القدّيس أفرام السرياني

        قالَ أحدٌ لِلأب أنطونيوس الكبير: "يا أَبَتِ، صَلِّ لأجلي"، فأجابَهُ الأب: "لا أنا أَرحَمُكَ، ولا الله، إنْ لَمْ تُسْرِعْ بِنَفْسِكَ لِتَطْلُبَ منهُ ذلك".
       رأيتُ أن أَستَهِلَّ كلامي حَولَ التَّوبةِ بهذا الكلام، لأُشَدِّدَ على أهمّيّةِ المُبادَرَة، وأن يمتَلِكَ الإنسانُ هِمَّةً لِلنُّهُوض. عَلَيَّ أَنْ أَشْعُرَ بِقَباحَةِ آثامِي، وأَفِرَّ هارِبًا مِنها، مُلتَجِئًا إلى الله. وهذه هِيَ التّوبة. يُعَلِّمُنا الآباءُ أنَّ التَّوبةَ تَجعلُ الخطيئةَ عديمةَ القُوّة.
       وقدِ ارتَأَيتُ أنْ أَستَعرِضَ أمامَكُم صلاةَ التّوبة للقدّيس أفرام السّريانيّ، الّتي نُرَدِّدُها كَثيرًا في فترةِ الصَّومِ الكبير. وهذا نَصُّها: "أيّها الرّبُّ وَسَيّد حياتي، أعتِقْني مِن رُوحِ البِطالةِ، وَالفُضُول، وَحُبِّ الرِّئاسة، والكلامِ البَطّال؛ وَأَنعِمْ عليَّ أنا عَبدَكَ الخاطئ بِرُوحِ العِفّة، وَاتِّضاعِ الفِكر، والصَّبر، والمحبّة؛ نَعَم يا مَلِكي وإلهي، هَبْ لِي أن أعرِفَ ذُنُوبي وَعُيُوبي، وأن لا أَدينَ إخوتي، فإنّكَ مُبارَكٌ إلى دَهرِ الدّاهرِين. آمين".
       إذا تأمَّلْنا في هذه الصَّلاة، نَجِدُ أنّها تنطَلِقُ مِن واقِعِ الحياة. وكأنَّ أبانا أفرام يُمسِكُ بأيدِينا وَيَسِيرُ مَعَنا خُطوةً خُطوةً في طريقِ الخَلاص، مُنطَلِقًا مِن الأُمورِ الّتي يَجِبُ أن نتخلَّصَ مِنها، والأُمورِ الّتي يَجِبُ أن نكتَسِبَها، إذا أردنا السَّيرَ في طريقِ الخلاص.
       فالأُمورُ الّتي يجبُ عليَّ التخلُّصُ منها هيَ: (البِطالة، الفُضُول، حُبّ الرّئاسة، الكلام البَطّال)، وتِلكَ الّتي يَجبُ عليَّ اكتِسابُها هِيَ: (العِفّة، اتّضاع الفِكر، الصّبر، المحبّة). وأيضًا يجبُ عليَّ أن أعرفَ ذُنُوبِي وعُيُوبِي، وأنْ أتَخَلَّصَ مِن آفَةِ مُحاسَبَةِ الآخَرينَ على خَطاياهُم.
 
أوَّلاً، يَجِبُ أن أتخَلَّصَ مِن:
ï  البِطالة: أَيْ الكَسَل. إذا تَكاسَلَ الإنسانُ وقَصَّرَ عَنِ القِيامِ بِواجِبِ العَمَل، يُخالِفُ أمرَ الله القائل "بِعَرَقِ وَجْهِكَ تأكُلُ خُبْزًا حَتّى تَعُودَ إلى الأرضِ الّتي أُخِذتَ مِنها. لأنّكَ تُرابٌ وإلى تُرابٍ تَعُود" (تك 19:3). راجع أيضًا: "وَلْيَتَعَلَّمْ ذَوُونا أن يَقُومُوا بالأعمالِ الصّالحةِ لِلحاجاتِ الضّروريّة، لِكَي لا يَكُونُوا غيرَ مُثمِرِين" (تي 14:3)؛ و"إنْ كانَ أَحَدٌ يُرِيدُ أنْ لا يَشتَغِلَ فَلا يَأكُلْ أَيضًا" (2 تس 10:3).
       فإذا كان الكَسَلُ على صعيدِ العَمَلِ الجَسَدِيّ العاديّ يُعتَبَرُ خطيئةً، كَم بالأحرى الكَسَلُ الرّوحيّ، أَيِ التّقاعُسُ عَنِ السّيرِ في طريقِ التّوبة؟! وكيفَ يسمحُ المسيحيُّ لِنَفسِهِ بالتّراخي في مَيادِينِ الجِهاد، مُعفِيًا نفسَهُ مِنَ الصَّلَواتِ والأَصوامِ بِحُجَّةٍ وَبِغَيرِ حُجّة؟!
       تَكمُنُ خُطُورةُ البِطالَةِ، هُنا، في أنّها تُوصِلُنا إلى العَبَثِيَّةِ في حَياتِنا الرّوحيّة، أي تُقنِعُنا بأَنْ لا جَدوى مِنَ التَّعَب، وهكذا تُوصِلُنا إلى اليأسِ القاتِل.
 
ï الفُضُول: هُوَ نتيجةٌ طبيعيّةٌ للبِطالة، وَلِليأسِ النّاتِجِ عَنها. فبَديهيٌّ، عندما يُغلِقُ الإنسانُ بابَ نفسِهِ، ولا يَعُودُ يَهتَمُّ بِالعَمَلِ عَلَيها وتَغيِيرِها، أن يَملأَ فَراغَهُ بِمُراقَبَةِ الآخَرِين. هذه هِيَ نتيجةُ اليأسِ والضّياع. والفُضُولِيُّ هُوَ إنسانٌ لا يَرى الخَيرَ الّذي في الآخَرِين، بَل يُفَتِّشُ دائمًا عَنِ السَّلبيّات، لأنَّ عَينَهُ مُظلِمَةٌ.
       الفُضُولُ هُوَ عَمَلُ الشَّيطان، لأنَّ هذا الأخيرَ يَكذِبُ عَلى الإنسانِ بِشَأنِ اللهِ والعالَم، وَيَملأُ الحياةَ بالظُّلمةِ والسَّلبيّة. فإذا سَلَّمنا حياتَنا إلى هذا النَّوعِ مِنَ اليأسِ والفُضُول، نُصبحُ عاجِزِينَ عن رُؤيَةِ النُّور، وَعَنِ الرّغبةِ فيه.
 
ï   حُبّ الرّئاسة: هذه الآفَةُ ناتِجَةٌ عَن سابِقَتَيها، وَلَئِنْ بَدا ذلكَ مُنافِيًا للمنطق. فَالمُصابُ بِداءَيِ الكَسَلِ والفُضُول، يُصبِحُ إنسانًا فارِغًا. وأيضًا يُصبِحُ إنسانًا بَعيدًا عن سيادةِ الله، لأنّه اختارَ بِنَفسِهِ أنْ لا يَكُونَ اللهُ سَيِّدًا لِحَياتِه. هذا الفَراغُ يَحتاجُ إلى مَلْءٍ... وهكذا يَتَوصَّلُ هذا الإنسانُ إلى مَركَزِيَّةِ الأنا، أي يُصبِحُ هُوَ سَيِّدًا لِذاتِه. إذا لَم يَكُنِ الرَّبُّ سَيِّدًا لِحياتي، فسأصبح أنا رَبًّا وَسَيِّدًا لِنَفسي، المركزَ المُطلقَ لِعالَمِي، لأفكاري، لِرغباتي، لأحكامي.
       وَبِهذهِ الطّريقة، يَقُودُنِي حُبُّ الرّئاسة إلى مُحاوَلَةِ إخضاعِ الآخَرِينَ لِي، وَعدَمِ النّظَرِ إلَيهِم إلاّ مِن مِنظارِ خِدمَتِهِم لِحاجاتِي. أو قد يَتَّخِذُ شَكلاً آخَر، ألا وَهُوَ ازدرائِي لِلآخَرِين، ولامُبالاتِي بِهِم.
       فإذا كانَتِ البِطالَةُ وَالفُضُولُ قَتلاً لِلذّات، فإنَّ حُبَّ الرِّئاسةِ قَتلٌ لِلآخَرِين.
 
ï   الكلام البَطّال: مَوهبةُ النُّطقِ، بِحَسَبِ الآباء، هِيَ خَتْمُ الصُّورةِ الإلهيّةِ في الإنسان؛ لأنّ الله استعلَنَ كَـ "كَلِمة". هِيَ الموهبةُ العُظمى. هِيَ الأداةُ الّتي يُعَبِّرُ بها الإنسانُ عَن نفسِه. لِذلك تُصبِحُ أداةَ السُّقُوطِ أيضًا. الكلمةُ تُخَلِّصُ والكلمةُ تَقتُل. إنّها أداةُ الحقيقةِ وأداةُ الكَذِبِ الشّيطانيّ.
       عندما تنحرفُ عَن أصلِها الإلهيِّ وعَن غايتِها، تُصبحُ الكلمةُ باطلةً تافهة. وعندئذٍ تُقَوِّي البِطالةَ وَالفُضُولَ وَحُبَّ الرّئاسة، وَتَجعلُ مِنَ الحياةِ جَحيمًا.
 
Ó    هذه السَّلبيّاتُ الأربعةُ هِيَ الحَواجِزُ الّتي علينا أن نُزِيلَها. ولكنّ الله وحدَهُ قادِرٌ على أن يُزِيلَها. وَهذا ما جَعَلَ القدّيسَ أفرامَ السُّريانيَّ يُطلِقُ هذا الصُّراخُ مِن أَعماقِ اليأسِ الإنسانيّ "أيّها الرَّبُّ وَسَيِّدُ حَياتِي".
 
ثانيًا، يَجِبُ أن أَكتَسبَ:
{   العِفّة: العِفَّةُ، بِمَعناها المباشر، هِيَ الفضيلةُ المناقضةُ لِلفُسُوقِ الجنسيّ، أَو لِحُبِّ اللَّذّةِ بِشَكلٍ عامّ. فإذا كانَ الفُسُوقُ يَعني تَحرُّرَ الجَسَدِ مِن رَقابةِ الرُّوح، فالعِفَّةُ تَعني إعادةَ الوحدةِ بينَ جَسَدِ الإنسانِ وَرُوحِه.
       أمّا مضمونُها الرّوحيّ فَهُوَ مَحَبَّةُ اللهِ الكاملةُ، والانسجامُ الكامِلُ مَعَهُ إلى درجةِ الاكتِفاءِ بِهِ وَحدَهُ، وَبِلَذَّةِ عِشْرَتِه، وعَدَمِ الاستعاضةِ عنهُ بِمَلذّاتِ هذا العالَم. قالَ الأب إيسيذوروس البيلوسيوتي: أكرِمِ الفضائلَ ولا تهتمَّ بالمَلَذّات، لأنَّ الفضائلَ خالدةٌ أمّا الملذّاتُ فتزولُ بِسُرعة. وقالَ الأب إيسيذوروس الكاهن: يستحيلُ عليكَ أن تعيشَ وَفْقًا لإرادةِ الله إذا كُنتَ مُحِبًّا لِلمالِ واللذّة.
 
{   اتّضاع الفِكر: التّواضُعُ هُوَ انتصارُ الحقيقةِ فينا، وَمَحْوُ الكَذِبِ الّذي نَعيشُ فيه عادةً. وهذا لا يُصَحِّحُ رؤيَتَنا للآخَرِينَ وَلِلعالَمِ وحَسْبُ، بَلْ يُصَحِّحُ رؤيَتَنا لله نفسِه، لِجَلالِهِ، لِطِيبَتِه وَمحَبَّتِه. المُتَواضِعُ يَمتَلِكُ نعمةً تَجعَلُهُ يَرى الله في كُلِّ شيء. "الرَّبُّ يُقاوِمُ المُستَكبِرينَ، أمّا المُتَواضِعُونَ فَيُعطِيهِمْ نِعمةً" (يع 6:4). ويعلِّمُنا الآباءُ أنَّ التّواضُعَ وَمَخافةَ اللهِ أسمى مِن كُلِّ الفضائل.
 
{   الصَّبر: إنَّ ضعفَ الإنسانِ السّاقطِ يَجعلُه فاقدَ البَصيرَةِ، يُخطئُ الحُكمَ على الآخَرِين، فَلا يَصبِرُ علَيهِم. يَقِيسُ الأُمورَ على حسَبِ ذَوقِهِ وَمِزاجِهِ وَقناعاتِه الشخصيّة. يُريدُ الأُمُورَ أن تَكُونَ كاملةً وناجحةً وتامَّةً "الآن" في هذه اللحظة.
       أمّا الإنسانُ الّذي يَعيشُ بالتَّوبةِ، وَيُجاهِدُ ضِدَّ نَقائصِهِ، وَيَكتسبُ العِفَّةَ والتَّواضُع، فَيَستَطيعُ أن يمتلكَ الصَّبر؛ لأنَّ الصّبرَ فضيلةٌ إلهيّة. إنّهُ مِن سِماتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. فالله صَبورٌ لا لأنّه متسامحٌ وَمُتَساهلٌ، بَل لأنّ حقائقَ الأُمورِ مكشوفةٌ لديه. أمّا نحنُ فليسَتْ لدينا هذه القدرة. لذلك، كلّما اقترَبْنا من الله، امتلَكْنا القدرةَ على الصَّبر، وأيضًا القُدرةَ على احترامِ جميعِ المخلوقات.
 
{   المحبّة: وبالنهاية، ثمرةُ كُلِّ مَجهودٍ وَكُلِّ نُمُوّ، ثمرة الفضائلِ كُلِّها وَقِمَّتُها هِيَ المحبّة. لا بل هي أصلُ الفضائلِ كُلِّها. يقولُ الذهبيُّ الفم: "المحبّةُ التي أساسُها المسيح هي ثابتةٌ وباقية. مَن لديه المحبّة المسيحيّة، مهما قاسى من شخصٍ ما، لا يتوقّف عن محبّته، بل يستلهم المحبّةَ من المسيح".
 
Ó    كلُّ هذا تَجمعُه وتُلخِّصُه الطّلبةُ الخِتاميّةُ لصلاةِ التّوبة: "هَبْ لِي أَنْ أعرفَ ذُنوبِي وَعُيوبِي وَألاّ أَدِينَ إخوتِي". لا يَكفي أن أَرى عُيُوبِي، لأنّ هذه الفضيلة الظاهرة قد تتحوّلُ إلى كبرياء. والكتابات الروحيّة ملأى بالتحذيرات من التّقوى المشوّهة التي تقود بالواقع الى تكبّر شيطانيّ حقيقيّ تحت ستار التواضع واتّهام الذات. ولكنْ عندما نرى "عُيُوبَنا" و"لا نَدِينُ إخوتَنا"، أو بكلمة أُخرى عندما تكون العِفّةُ والتّواضعُ والصّبرُ والمحبّةُ واحدًا فينا، عندئذ فقط يمكننا أن نحطّم كبرياءنا.
 
       وأختمُ بقَولٍ للقدّيس إبيفانيوس أسقف قبرص: "الله يَمنحُ الخطأةَ رأسَ المالِ عندما يَتُوبُون، كما هُوَ الحالُ معَ الزّانيةِ والعشّار. ولكنّه مِن الأبرارِ يَطلُبُ الفائدة. وهذا ما قالَهُ للرُّسُل: إنْ لَم يَزِدْ بِرُّكُم على الكَتَبَةِ والفرّيسيّينَ فَلَن تَدخُلُوا ملكوتَ السّماوات" (مت 20:5).