خدمة الزّيت المقدَّس

 الزَّيت في الكتاب المقدّس:
    وَرَدَ ذِكرُ الزَّيتِ في الكتابِ المقدَّسِ مَرّاتٍ عديدة، وَهُوَ زَيتُ الزَّيتُون. أمّا استعمالاتُهُ فكانَت كثيرةً، نَذكُرُ مِنها:
- إضاءةُ السُّرُج: "وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى قائلاً: كَلِّمْ بَنِي إسرائيلَ أن يَأخُذُوا لِي تَقدِمَةً... ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ... وَزَيتٌ لِلمَنارَةِ..." (خر 6:25). "أمّا الجاهِلاتُ فَأَخَذْنَ مَصابِيحَهُنَّ ولَمْ يَأخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيتًا" (مت 3:25).
- السَّكْبُ فَوقَ التَّقدِمة: "إذا قَرَّبَ أحدٌ قُربانَ تقدِمَةٍ لِلرَّبِّ، يَكُونُ قُربانُهُ مِن دَقيقٍ، وَيَسكُبُ عليها زيتًا..." (لا 1:2).
- مَسْحُ المُلُوك، مثلاً: مَسْحُ صَموئيلَ لِشاوُل (1صم 1:10)- مَسْحُ صَمُوئيل لِداوُد (1صم 13:16)- مَسْحُ صادُوق الكاهِنِ لِسُلَيمانَ بْنِ داوُد (1مل 39:1)- مَسْحُ النَّبِيّ الّذي أرسَلَهُ أَلِيشَعُ لِياهُو بْنِ يَهُوشافاط (2مل 6:9).
- مَسْحُ الكَهَنَةِ وَرُؤَساءِ الكَهَنَة: (خر 1:29-37) (لا 7 و 8).    

 علاقةُ الزَّيتِ بالشِّفاءِ والرَّحمة:
يُذكَرُ الزَّيتُ كَمادَّةٍ لِشِفاءِ أمراضِ الجَسَدِ وأمراضِ النَّفس (الخطيئة) "... وَدَهَنُوا بِزَيتٍ مَرضى كَثِيرِينَ فَشَفَوهُم" (مر 13:6). "أَمَريضٌ أحدٌ بينَكُم؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ الكنيسةِ فَيُصَلُّوا عليهِ وَيَدهَنُوهُ بِزَيتٍ بِاسمِ الرَّبّ، وَصَلاةُ الإيمانِ تَشفي المريضَ، والرَّبُّ يُقِيمُهُ، وَإِنْ كانَ فَعَلَ خطيئةً تُغْفَرُ لَهُ" (يع 14:5-15).
وتَجدرُ الإشارةُ إلى أَنَّ كَلِمَتَي "زَيت" و "رَحمة" هُما مِن اشتِقاقٍ واحدٍ في اللُّغَةِ اليُونانيّة: فالزَّيتُ ، والرَّحمةُ . وهٰذا ما يُبَيِّنُ العلاقةَ بَينَ مَفعُولَيِ الشِّفاءِ والرَّحمةِ في الزَّيتِ المُقَدَّس. وخَيرُ صُورَةٍ لِهٰذه العلاقةِ مَثَلُ السّامريِّ الصّالح، الّذي تَحَنَّنَ على المُجَرَّحِ، فَصَبَّ على جِراحاتِهِ زَيتًا وخَمرًا، واعتنى بِهِ إلى أن زالَ عنه الخَطَر.
    والسّامريُّ الصّالحُ رَمزٌ للمسيحِ الّذي هُوَ الشّافي والمُحِبُّ البَشَر، الّذي لَم يَترُكْنا نحنُ الَّذِينَ جَرَّحَنا اللُّصُوصُ، أيِ الخطايا والشّهواتُ الرّديئة، بَل اتَّخَذَنا على عاتِقِه، وصَبَّ على جِراحاتِنا زَيتًا وخَمْرًا، أيِ الأسرارَ المُقَدَّسَةَ الّتي تَجلِبُ الخَلاص، وبِخاصَّةٍ سِرُّ الزَّيتِ المُقَدَّسِ، وَسِرُّ الشُّكر.

 تاريخُ خِدمةِ الزَّيتِ المُقَدَّس:
لدينا شهاداتٌ قديمةٌ جِدًّا عَن مُمارَسَةِ خدمةِ الزّيتِ المُقَدَّسِ في الكنيسة. فَكِتابُ الأوامرِ الرَّسُولِيّة، الّذي يَرقى إلى بداية القرن الثّالث للميلاد، يُورِدُ نَصًّا لِتَقديسِ الزَّيت، جاءَ فيه: "أيّها الرَّبُّ إلٰهُنا، أنتَ قَدِّسْ هٰذا الزَّيتَ، وَاغرُِسْ فيهِ موهبةَ التّقديسِ لِلَّذِينَ يُوَزِّعُونَهُ والَّذِينَ يَقبَلُونَهُ. بِهِ أَشَرْتَ أنْ يُمسَحَ المُلُوكُ وَالكهنةُ والأنبياءُ في القديم. هَبْنا نحنُ أيضًا إذْ نُمسَحُ بهِ، صِحَّةَ النَّفسِ والجَسَد".
وَكِتابُ الإفخولجيون الّذي وضَعَهُ القدّيس سيرابيون في بداية القرنِ الرّابع، يحتوي أيضًا صلاةَ تقديسِ الزَّيت، جاءَ فيها: "نبتهلُ إليكَ يا مُخَلِّصَ البَشَرِ... أنْ تَبعَثَ قُوَّةَ الشِّفاءِ في هٰذا الزَّيت، لكي يَنالَ كُلَّ مَن يُمسَحُ به شِفاءً مِن كُلِّ داءٍ جَسَدِيّ، وَخَلاصًا مِن قُوَّةِ المُعانِد، لِكَي يُعتَقَ مِن كُلِّ حُمًّى وَضُعْفٍ، وَيُمنَحَ غُفرانَ الخَطايا وَموهبةَ الحياةِ الخَلاصِيّة، فَيَنمُوَ في صِحَّةِ الجَسَدِ وَفي حُرّيَّةِ الرُّوحِ".
والقدّيسُ يوحنّا الذَّهبيُّ الفَمِ يَذكُرُ سِرَّ الزَّيتِ المُقَدَّسِ مِن ضِمن المَواهِبِ الّتي تَسكُبُها النِّعمةُ الإلٰهِيَّةُ على الكاهِن.
كانت هٰذه الصَّلَواتُ بسيطةً، إلاّ أنّها عَرَفَتْ منذُ القرنِ الثّامنِ تطوُّرًا كبيرًا، فَأُدخِلَتْ عليها التِّلاواتُ السَّبْعُ مِنَ الرَّسائلِ وَمِنَ الأناجيل، والأفاشينُ السَّبعة، وأُضِيفَ القانُونُ. وفي القرنِ الخامسَ عَشَرَ دَخَلَتْ عادةُ وَضْعِ الإنجيلِ فَوقَ رأسِ المريض.

 دَواعي إقامةِ الخدمة:
قد يَظُنُّ البعضُ أنَّ المسحةَ بالزَّيتِ المُقَدَّسِ لا تُستَخَدَمُ إلاّ في حالاتِ المَرَضِ القُصوى، إذْ يُشرِفُ المريضُ على الموت. وهٰذا غيرُ صحيح. يَنتَقِدُ الذَّهَبِيُّ الفَمِ هٰذا الاِعتِقادَ، إذْ كانَ شائعًا في عَصرِهِ، وَيُوصِي باستِخدامِ المسحةِ بالزَّيتِ المُقدَّسِ في حالاتِ المَرَضِ كافَّةً. وهٰذا ما نَفعَلُه.
خِدمةُ الزَّيتِ المُقَدَّسِ مَوضُوعةٌ في الأساسِ لأجلِ المرضى جَسَدِيًّا، وفي هٰذه الحالةِ تُقامُ في البُيُوت. إلاّ أنّها تُقامُ أيضًا لأجلِ الخاطئينَ التّائبِين، أَيِ المَرضى رُوحِيًّا، وفي هٰذه الحالةِ تُقامُ في الكنيسة. وقد دَرَجَتِ الكنيسةُ الأرثوذكسيّة، في أماكِنَ عديدةٍ، على إقامتِها في الأسبوعِ العظيم المُقَدَّس، وَغالبًا يومَ الأربعاء.

 في طقس الخدمة:
تَجدُرُ الإشارةُ إلى الفارِقِ بَينَ الخِدمةِ في الأسبوعِ العظيم وبينَها في سائرِ أيّام السّنة، أنَّ الدَّهْنَ بالزَّيتِ، في الأسبوعِ العظيم، يكونُ مرَّةً واحدةً، في نهايةِ الخِدمة، أمّا في سائرِ أيّامِ السَّنة، فيَكُونُ سَبْعَ مَرّات، في خِلالِ الخِدمة.
وَيُتَمِّمُ الخدمةَ، في الأساسِ، سَبعةُ كَهَنَةٍ. فإِنْ لَم يُوجَدُوا، لا بأسَ بأقَلَّ مِن سَبعة، أو حتّى كاهِنٍ واحد.
    يُؤتى بِطاوِلة، يُوضَعُ عليها كتابُ الإنجيل، وصليب، وَسَبْعُ شُمُوعٍ مُضاءة. العددُ سَبعة لَهُ أساسٌ كِتابِيّ: إيليّا النَّبِيُّ صَلّى سَبْعَ مَرّاتٍ إلى الرَّبِّ، فأنزَلَ المَطَرَ مِنَ السَّحاب (1مل 43:18)؛ وَأَلِيشَعُ النَّبِيُّ أَقامَ ابنَ المرأةِ الشَّونَمِيّة بَعدَ أنْ جَثا سَبعَ مَرّاتٍ وَصلّى أمامَ الرَّبّ (2مل 37:4)؛ وَنُعمانُ السُّورِيُّ اغتَسَلَ سَبْعَ مَرّاتٍ في مياهِ الأُردُنّ، فَطَهُرَ مِن بَرَصِه (2مل  10:5 و14).
    وتتألَّفُ الخِدمةُ مِن أربعِ مَراحِل:
1- صلاةٌ تمهيديّة: تباركَ الله... قدّوسٌ الله... مز 142 (يا ربُّ استمعْ إلى صلاتي...)، طلبة صغيرة... مز 50... قانونٌ يتضمَّنُ ابتهالاتٍ مِن أجلِ المريض... قدّوسٌ الله... طلبة صغيرة... طَلَبُ الشِّفاءِ للمريض.
2- صلاةٌ مِن أجلِ تقديسِ الزَّيت (أنتَ أيّها السَّيِّدُ قَدِّسْ هٰذا الزَّيتَ، حتّى يكونَ لِلمَمسُوحِينَ به للشِّفاءِ وَالفِداءِ مِن كُلِّ الآلامِ والأدناسِ النَّفسيّةِ والجسديّة وَمِن كُلِّ الأسواء، لِيَتَمَجَّدَ بِهِ اسمُكَ الكُلِّيُّ قُدسُه أيّها الآبُ..."؛ ثُمَّ طروباريّات القدّيسِين: يعقوب أخي الرَّبّ، يوحنّا الحبيب، والدة الإله، وسائر القدّيسِين الصّانعِي العجائب.
3- قَلبُ الخِدمة: سَبْعَةُ مَقاطِعَ مِنَ الرَّسائل، وَسَبْعَةُ مقاطعَ مِن الأناجيل، وَسَبعةُ أفاشين.
4- صلاة الحَلِّ: يُوضَعُ الإنجيلُ، مفتوحًا، فَوقَ رأسِ المريض، وَيَتلو الكاهِنَ إفشينَ الحَلِّ مِنَ الخطايا. ثُمَّ يُقَبِّلُ المريضُ الإنجيلَ، وتُختَمُ الصّلاة.