الشهادة والإستشهاد

محاضرة ألقيت في رعية أنفة بتاريخ 21 تشرين الثاني 2023

الشهادة والاستشهاد في المسيحيّة
*الأب نقولا مالك*
- مقدّمة:
لُغَوِيًّا، تأتي كلمةُ الاِستشهادِ من الشهادة. اِستَشهَدَ فُلانٌ فُلانًا، أي طَلبَ منه أن يَشهَدَ. فالذي يَطلُبُ هو المُستشهِد، والذي يُسألُ هو المُستَشهَد أو الشهيد.
ففي المسيحيّة، حينَ نقولُ عن القدّيسينَ أنّهم استُشهِدُوا، نقصدُ أنّهم سُئلُوا عن إيمانِهم، ونُوقِشُوا في أمرِه، فلمّا ثَبَتُوا عليه ولم يُنكِرُوه صاروا شُهَداء، أي قُتِلُوا بسببِ إيمانِهم.
والشهيدُ يَربَحُ الملكوت، لا وحدَه، بل كثيرونَ من الذين يُعاينونَ جرأتَه في مواجهةِ ذَوي السُّلطة، وَيسمعونَ أقوالَه، يُصبحونَ مسيحيّين، ومنهم مَن يقتبلونَ موتَ الشهادةِ بشجاعةٍ وفرح.
والشهداء هم أكثرُ مَن ينطبقُ عليهم كلامُ الربّ: "من اعترفَ بي قدّامَ الناسِ أَعترفُ به أنا أيضًا قدّام أبي الذي في السموات". (مت 32:1)
 
- لماذا يَسمَحُ اللهُ بالتعذيبِ والاستشهاد؟
هل يتخلّى الله عن المؤمنين به؟ بما أنّه إلهٌ رحيم، لماذا يَسمحُ بأن يتعرّضوا للاِضطهاد؟!
دَعُونا نتذكّرُ قولَ الربّ لنا: "اُذْكُرُوا الْكَلاَمَ الَّذِي قُلْتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كَلاَمِي فَسَيَحْفَظُونَ كَلاَمَكُمْ. 21لكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِكُمْ هذَا كُلَّهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِي، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الَّذِي أَرْسَلَنِي." (يو 20:15). إذًا، ليس اللهُ مُبتَكِرَ الشرّ، ولا يُرضِيهِ أن نُضطَهَد، ولكنَّ الشرَّ موجودٌ في العالَم، وبسببِ سُوءِ استخدامِ الإنسانِ لحُرِّيَّتِه، يَنقادُ وراءَ حُبِّ المالِ وحُبِّ السُّلطةِ والرَّذائل، فينتشرُ الفسادُ في المجتمع. وهذا ما يَجعلُ طُلّابَ الحقِّ وَحافظِيهِ يُضطَهَدون، لأنّ هدفَهم مختلفٌ عن أهدافِ الدُّنيَوِيِّين، ولأنَّ وُجُودَهم مُزعجٌ لأُولئك.
واللهُ لا يتدخّلُ في إرادةِ الإنسان، سواءٌ كانَ صالحًا أم شرّيرًا. زِدْ على ذلك أنَّ وقتَ الدينونةِ لَم يَحِنْ بَعد.
على كُلِّ حال، رُغمَ صعوبةِ الاضطهاداتِ والتعذيباتِ التي يتكبّدُها المؤمنون بالمسيح، فإنَّ الحصيلةَ رائعة؛ إذْ يتجلّى مجدُ الرَّبِّ في جَلادةِ الشُّهداءِ والمعترفِين، ويَخزى الشَّيطانُ عدوُّ الخيرِ عندما يرى ثَباتَهم، وهم مجرَّدُ مخلوقاتٍ ضعيفةٍ تُرابيّة. يَنجحونَ حيثُ فَشِلَ هو. وبهذه الطريقةِ ثَبَتَتِ الكنيسةُ وتقَوَّتْ، لأنّها أغصانٌ في "الكرمة"، كُلَّما تقلَّمَتِ استعادَتْ عافِيَتَها وأفرخَت أغصانًا جديدةً نَضِرة.
 
- أسبابُ الاِضطهاد:
       من ناحيةِ اليهودِ الذينَ لم يُؤمنوا بالمسيح، واضحٌ أنَّهم اعتبروهُ مُخَرِّبًا لدِيانتِهم وَلِتقاليدِ آبائهم، وأيضًا إذا كان هو المسيحَ المنتظَر، تكون ديانتُهم منتهية. أمّا مِن ناحيةِ الوثنيّين، فكان اضطهادُهم لأتباعِ المسيحِ في البدايةِ لأنّهم قِلّةٌ مستضعَفة، ولأنّ اليهودَ كانوا دائمًا يُحرِّضونَ السُّلطةَ ضِدَّهم لِيُبيدُوهم.
       ولكنْ، عندما اقتربَ الوثنيّونَ أكثرَ مِن تعاليمِ الإيمانِ المسيحيّ، كان عليهم أن يختاروا بينَ اتِّباعِ هذا الدين، أو اعتبارِه خطرًا على دياناتِهم، وذلك للأسبابِ التالية:
1- النظرة إلى الله:
اِنطلقَ الوثنيّونَ في عباداتِهم من مُنطلَقِ الخوفِ من الآلهةِ الغامضة، فكانوا يلجأونَ إلى التَّعاويذِ السِّحريّة، وكانوا يقدّمونَ الطَّعامَ والشَّرابَ لِلآلهة؛ أمّا المسيحيّون فقد انطلقوا مِن محبَّةِ الله، ومِن تعليمٍ واضح، وَمِن إيمانٍ يَستقرُّ في القلبِ والفِكرِ والرُّوح، لذلك جاءت طقوسُهم ترجمةً عمليّةً لهذا الإيمان.
2- النظرة إلى الإنسان:
لم تُعلِّمِ المسيحيّةُ بُغضَ الأعداءِ والغُرَباء، بل على العكسِ نادت بمحبّةِ الأعداء. فليست ديانةً مغلقةً كاليهوديّة والوثنيّة، اللتَينِ كانتا تعتقدانِ بوجودِ إلهٍ خاصٍّ بِكُلِّ شَعب.  أرادَ المسيحُ أَن تصلَ البشارةُ إلى العالَمِ أَجمع، وأن يَضُمَّ إلى كنيستِهِ كُلَّ اختلافِهم.
3-  النظرة إلى الدُّنيا:
المسيحيّونَ يعيشون في العالَمِ ويستعملُونَه بحسبِ مشيئةِ الله، ويقومونَ بنشاطاتِهم وأعمالِهم بإخلاصٍ، فَرِحِينَ ومقتنعين، إلّا أنّهم يُدرِكُونَ أنَّها كُلَّها مؤقَّتةٌ وزائلة، لذلكَ لا يتعلّقونَ بشيءٍ منها. وقد أَوصانا الربُّ: أنتم في العالَمِ ولكنَّهم لستُم مِنَ العالَم.
المسيحيُّ هدفُه السماء. هي وطنُه الأصليُّ ومستقَرُّهُ النهائيّ. هو يُدرِكُ أنَّ هذا العالم الفاني سوف يَمضى وشهوَتُه معه، لذلك يجعلُ كُلَّ أشواقِه في السماء. يقول بولسُ الرسول: "فإذْ نحن واثقون كُلَّ حِينٍ وعالِمون أنّنا ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغرِّبون عن الربّ، نثقُ وَنُسَرُّ بالأَولى أن نتغرّبَ عن الجسد ونستوطنَ عندَ الرّبّ." (2كو5: 6،8) 
- مفهوم الألم في المسيحيّة:
       بما أنّ المسيحيّةُ ديانةُ الروح، لم يَعُدِ الألَمُ في نظرِها أمرًا يتعلّقُ بالجسد؛ ذلكَ أنّه يرتبطُ بالمحبّة. فالمسيحُ سعى نحوَ الآلامِ لكي يُحرِّرَنا من بَراثنِ الموت، لأنّه يُحِبُّنا. تغيّرت مَذاقةُ الألَم، وصارَ هِبةً رُوحيّة: "لأَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ." (في 29:1). صارَ شركةً مع الربّ: "لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ، 11لَعَلِّي أَبْلُغُ إِلَى قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ." (في 10:3)
 
كيف نكونُ شُهَداء؟
قُلنا إنَّ الشَّهيدَ هُوَ مَن يُستشهَدُ، أي يُسألُ عن إيمانِه، فإذا ثَبَتَ على إيمانِه ولم يُنكِرْهُ رغمَ الترغيبِ والترهيب، قُتِل ونالَ إكليلَ الشَّهادة. ماذا إذا تَعرَّضَ للضَّغطِ النَّفسيِّ والمُضايَقاتِ الشَّديدة والتّهديدِ والتّعذيبِ الجسديّ وَلَم يُقتَل؟ من القدّيسينَ مَن تعرّضوا لهذه الأمور، وَبَقُوا على قَيدِ الحياة. هؤلاءِ نُسمِّيهِم "المعترِفِين". وغالبًا ما يقترنُ ذِكرُهُم عندَنا بِذِكرِ الشُّهداء، فنقول: الشُّهداء والمعترِفِين.
وماذا لَو لم يتعرَّضِ المسيحيُّ لا لِلقَتلِ ولا للتّعذيب، بل عاشَ في فترةِ سَلام؟! هل تُطلَبُ منه شَهادةٌ ما؟!!
نعم! كُلُّ مسيحيٍّ شهيدٌ، بمعنى أنّ عليه أن يَشهَدَ لإيمانِه عن طريقِ حياتِه. فإذا ثَبَتَ الإنسانُ على إيمانِه رغمَ ما يُحيطُ به مِن مُغرِيات، أو ما يكتنفُه من ظروفٍ قاسيةٍ وضيقاتٍ وآلامٍ ومصائب، يكونُ شهيدًا حَيًّا.
كُلُّ مَن يحيا مُخلِصًا لِلمَبادئِ الإيمانيّة والفضائل الإنجيليّة، غيرَ متأثّرٍ بِالشُّكوكِ التي تأتيهِ من الأصدقاء والأقرباء، أو من الأعداء، أو مِن الإعلامِ المُضَلِّل... يكونُ شهيدًا حيًّا.
كُلُّ مَن يَحفَظُ نفسَه في الطَّهارةِ رغمَ إغراءاتِ الخطيئة ونداءاتِ الجسدِ التُّرابيّ، يكونُ شهيدًا حَيًّا.
       في يومِ الدَّينونة، سيأتي ابنُ الله في مَجدِه وَيُجازِي كُلَّ واحدٍ حسبَ أعمالِه. فالشُّهداءُ سيَمثُلُونَ لدَيهِ حامِلِينَ عذاباتِهم، والصّدّيقونَ حامِلينَ فضائلَهم. ونحنُ.. ماذا سنقدِّمُ له؟!!!