الأسبوع العظيم

صَومان:
الصّومُ الكبيرُ ينتهي فعليًّا يومَ الجمعة من الأسبوعِ السّادس، لِذٰلكَ نَقرأُ مساءَ الجمعة: "إذْ قد أَكْمَلْنا الأربعينَ النّافعةَ لِلنَّفس، نتوسَّلُ إليكَ يا مُحِبَّ البَشَرِ أنْ تُؤَهِّلَنا لِمُشاهَدَةِ أُسبُوعِ آلامِكَ المُقَدَّس، لِنُمَجِّدَ فيه عظائمَكَ وَتَدابِيرَكَ الصّالحةَ مِن أجلِنا…". وهٰذا الصَّومُ الكبيرُ هُوَ فترةُ تطهيرٍ وتَوبة، تُهَيِّئُنا لِلأُسبوعِ العظيم.
أمّا الأُسبوعُ العظيم، فَهُوَ فترةُ صَومٍ مُرَكَّزٍ، نَتفرَّغُ فيها لمُرافقةِ السَّيِّدِ في آلامِهِ وَصَلْبِه، وُصُولاً إلى قيامتِه المجيدة. إِنّهُ الأُسبوعُ الأكثرُ أهميَّةً في السّنة، فالحوادثُ الخلاصيَّةُ الّتي تمّتْ في القرنِ الأوّلِ مرّةً، نَعُودُ لِنَعيشَها مِن خلالِ تراتيلِ الأسبوعِ العظيم وصَلَواتِهِ وَخِدَمِه.
 
سبت لعازر:
        تَبِعْنا المسيحَ مُعَلِّمًا وشافِيًا في نَواحي الجَليلِ واليَهُودِيّة. أمّا في الأسبوعِ العظيم فنَراهُ في أورشليمَ ونَواحِيها.
جاءَ يسوعُ إلى بيت عنيا، وهي بَلدَةٌ تَقَعُ إلى الشَّرقِ مِن جبلِ الزّيتون، حَيثُ أقامَ لَعازَرَ مِنَ الموت. لَعازَر اسمٌ عِبْرِيٌّ يَعني "اللهُ ساعَدَ". كانَ لَعازَرُ صديقًا لِيَسُوع، وقد جاءَ في الإنجيلِ أنَّ "يَسُوعَ أَحَبَّ مرتا وَأُختَها مريمَ ولعازر" (يو 5:11). لَم يَدخُلْ إلى البيتِ لِيُعَزِّيَ كَسائرِ اليَهُود، لٰكِنَّهُ ظَلَّ خارجًا لِكَي يُقِيمَ لَعازر.
        صَلّى إلى الآب، مُظهِرًا وَحدتَهُ مَعَهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ سُلطانَهُ على الحياةِ والموت.
        الموتُ يَرتعدُ مِن إقامةِ المسيحِ لِلَعازر.
        المسيحُ يَظهرُ إنسانًا بِبُكائِهِ وَسُؤالِهِ عَن مكانِ القبر واستِعانَتِهِ بِأُناسٍ يُدحرِجُونَ الحجرَ عن بابِ قبرِ لعازر؛ وَإلٰهًا بِإقامتِهِ لعازَرَ بِكَلِمة.
        لقد فَسَّرَ آباءُ الكنيسةِ قيامةَ لعازَرَ رمزيًّا كَعلامةٍ لقيامتنِا الرُّوحيّةِ في الحياةِ الحاضرة. فََلَعازَرُ يُمَثِّلُ كُلَّ إنسانٍ خاطئٍ قابِعٍ في قَبرِ الخطيئةِ المُظلِم وَمُقَيَّدٍ بِأَربِطَةِ الخطيئة. بالتَوبةِ يأتي المسيحُ إلى ظُلْمَةِ نُفُوسِنا، يَصيرُ صَوتُهُ حياةً وَنُورًا، فَيُنهِضُنا مِن قُبُورِ الخطيئةِ المُنْتِنة، مُحرَّرًا ايّانا من أربِطَةِ الخطيئة، ومانحًا ايّانا حياةً جديدة.
 
 
 
أحد الشّعانين:
       كانَ المُلُوكُ وقادَةُ الجُيُوشِ يَقُودُونَ مَواكِبَ النَّصرِ في مُدُنِ العالَمِ القديمِ في مشهدٍ اتَّصفَ بالقوَّةِ والعَظَمة، إذْ كانَتْ تُرافِقُهُم العَرَباتُ والجِيادُ والجُنُودُ والأسلحةُ والغنائم. أمّا يَسُوعُ فيدخلُ الآنَ إلى أورشليمَ معَ مجموعةٍ من الصيّادِينَ الجليليّينَ البُسَطاءِ، راكبًا على حِمار.
الجموعُ المُحتَشِدَةُ رأتْ يسوعَ مَلِكًا يَدخُلُ ظافِرًا إلى أورشليمَ لِيُعِيدَ إلَيها سِيادةَ شَعبِ الله، وَيَهزِمَ الرُّومانِيِّينَ المُحتَلِّين. إلاّ أنَّ يَسُوعَ كانَ بِدُخُولِهِ إلى أورشليمَ يُنهي العهدَ القديمَ ويَفتَتِحُ الجديد، بإتمامِ نُبُوءةِ زكريّا: "إبتهِجي جِدًّا يا ابنةَ صِهيَون، اهتِفي يا بِنتَ أورشليم، هُوَذا مَلِكُكِ يأتي إليكِ وَدِيعًا راكِبًا على حِمارٍ وعلى جَحشٍ ابنِ أتان" (زك 9:9).
        ولٰكِنَّ هٰذا الفَرَحَ الظّاهرَ يُخفي خَلْفَهُ الصَّليبَ والآلام. لذٰلكَ اعتَدنا في أحدِ الشّعانينِ أن نحملَ أغصانَ النَّخيلِ على شكلِ صليب، تذكيرًا بأنَّ أحد الشّعانينِ هُوَ بَدءُ مرحلةِ آلامِ المسيحِ الخلاصيّةِ مِن أجلِ العالَم.
في أحدِ الشَّعانينِ نستقبلُ المسيحَ كملِكِ على حَياتِنا.
 
الخَتَن:
        إبتداءً مِن عشيّةِ أحد الشَّعانين وحتّى عشيّةِ الثّلاثاءِ العظيم، لدَينا خِدمةٌ تُعرَفُ بِصَلاةِ الخَتَن، وهِيَ عِبارةٌ عن صَلاةِ سَحَرِ اليَومِ التّالي. وتأتي تسميَتُها مِن مَثَلِ العذارى العَشْرِ الوارِدِ في الأصحاح الخامس والعشرين من إنجيل متّى، حيثُ يتكلَّمُ الرَّبُّ عَن عُرسٍ رُوحِيٍّ يأتي فيه الخَتَنُ (العَرِيسُ) في نِصفِ الليل، وتكونُ بعضُ العذارى مُستَعِدّاتٍ لاستقبالِهِ، حاملاتٍ المصابيح، بينما تكونُ الأُخرَياتُ غيرَ مُستَعِدّاتٍ، فَيُترَكنَ، تالِيًا، خارجَ وَلِيمةِ العُرس. خِدرُ العُرسِ يَرمُزُ إلى المَلَكُوت؛ أمّا صُورةُ الخَتَنِ فَتُشيرُ إلى الـ (Parousi1a)، أي الحُضُور أو المجيء. وفي تقليدِنا الآبائيّ أنَّ لِهٰذا المَثَلِ علاقةً بالمجيءِ الثاني للمسيح.
الأيّامُ الثّلاثةُ الأُولى مِنَ الأُسبوعِ العظيمِ تُعَلِّمُنا أنّنا بحاجةٍ إلى السَّهرِ والتأهُّبِ الرُّوحِيَّين، لِكي نكونَ مستعدّينَ لاستقبالِ المسيحِ الّذي هُوَ خَتَنُ كُلٍّ نَفسٍ بَشَرِيّة. وتَدُورُ صَلَواتُها حولَ أيّامِ يَسُوعَ الأخيرةِ على الأرض، وما جاءَ فيها مِن أمثالٍ وأقوالٍ وَخُطَبٍ، تَتَمَحْوَرُ كُلُّها حَولَ بُنُوَّةِ يَسُوعَ الإلٰهِيّةِ، ومَلَكُوتِ الله، والمجيءِ الثّاني، كما تَعرِضُ لنا مُواجَهَةَ يَسُوعَ لِرِياءِ قادةِ اليَهُودِ، وَنواياهُمُ المُظلِمة.
        وإلى جانبِ هٰذا الرّابِطِ المُشتَرَك، ثَمَّةَ مواضيعُ يَتَفَرَّدُ بِها كُلٌّ مِن صَلَواتِ الخَتَن. فَفِي صلاةِ الخَتَنِ الأُولى نتذكَّرُ يُوسُفَ بْنَ يَعقوبَ، الّذي تَعتبرُه تقالِيدُنا الآبائيّةُ والليتورجيّةُ رمزًا للمسيح، نَظَرًا لِفضيلتِهِ وحياتِهِ المميَّزة. تَرِدُ قِصَّةُ يُوسُفَ في سِفرِ التّكوين (الأصحاحات 37-50). أُلْقِيَ يُوسُفُ في بِئرٍ، وَبِيعَ كَعَبدٍ، إلاّ أنّه استعادَ كَرامتَهُ في أرضِ مِصر، وفي هٰذا صُورةٌ مُسبَقَةٌ لِلمسيحِ الّذي تنازَلَ كَعَبدٍ إلى الجحيم، فحوَّلَ عُبُودِيَّتَهُ وَمَوتَهُ إلى حياةٍ أبديّةٍ لِكُلِّ جِنسِ البَشَر.
        وَفي صلاةِ الخَتَنِ الثّانِية، نتذَكَّرُ مَثَلَ الوَزَناتِ الواردَ في الأصحاحِ التّاسعَ عَشَرَ مِن إنجيلِ لُوقا، وَهُوَ يُعَلِّمُنا ضرورةَ القِيامِ بالأعمالِ الصّالحةِ لِكَي نَستَحِقَّ الرّحمةَ الإلٰهِيَّةَ والمَلَكُوتَ السَّماوِيّ.
        أمّا في صَلاةِ الخَتَنِ الثّالِثة، فنتذَكَّرُ المرأة الزّانية الّتي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ، وقَبَّلَتْ قَدَمَيه، مُقارِنِينَ تَوبَتَها وَوَفاءَها بِجُحُودِ يَهُوذا وَخِيانَتِه.
 
الأربعاء العظيم:
        يَومَ الأربعاءِ تُقامُ خِدمةُ سِرِّ الزَّيتِ المُقَدَّس، الّتي تُقرَأُ فيها سَبعةُ مقاطعَ من الرّسائل، وسبعةٌ من الأناجيل، مَعَ سبعةِ أفاشين. في هٰذه الخدمةِ تركيزٌ على التّوبةِ وطلَبِ الغفرانِ من الرّبّ.
        في الأربعاءِ العظيم، نُمسَحُ بالزّيتِ المقدَّسِ كَجُنودٍ للمسيحِ، استعدادًا لآلامِهِ الوَقُورة.
 
الخميس العظيم، صباحًا:
صباحَ الخميسِ العظيم، نجتمعُ حولَ مائدةِ الرَّبِّ لنحتفلَ بالعشاءِ السرِّيِّ معَهُ. في هٰذا القُدّاسِ نتذكَّرُ تأسِيسَ الرَّبِّ لِسِرِّ الشُّكر، وَغَسْلَهُ أرجُلَ تلاميذِه (يو 1:13-17)؛ كَما نتذكّرُ خِيانةَ يَهُوذا الّذي، في وَسَطِ الوَليمةِ الفِصحيّة، في ساعةِ تَجَلِّي محبَّةِ الله الكاملة، أظْهَرَ بَشاعةَ مَعصِيَتِه.
اللهُ محبّة (1يو 8:4). عندما خلقَ اللهُ الإنسانَ، أعطاهُ أن يأكلَ ويَشربَ وَيُشارِكَ العالَم. فكانَ العالَمُ المَحبَّةَ الإلٰهيّةَ الّتي صارَتْ طَعامًا للإنسان. وَبِمُشارَكَةِ الإنسانِ لِلعالَمِ يَكُونُ في شَرِكَةٍ مَعَ الله، لأنَّ العالَمَ هُوَ عَطِيَّةُ الله. محبَّةُ اللهِ للإنسانِ أعطَتْ الإنسانَ حَياةً، وَمحبَّةُ الإنسانِ لله تُحَوِّلُ هٰذه الحياةَ إلى شَرِكَةٍ مَعَ الله... هٰذه هِيَ الجَنّة، حَيثُ الخليقةُ كُلُّها تتقدَّسُ بالإنسان، وتتحوَّلُ إلى سِرٍّ واحدٍ شاملٍ للحضورِ الإلٰهيّ (ذبيحةَ تسبيح .. إفخارستيّا)، ويكونُ الإنسانُ كاهِنَ هٰذا السِّرّ.
ولكنْ، بالخطيئةِ تَوَقَّفَ الإنسانُ عن رؤيةِ العالَمِ كَواسطةٍ للشَّرِكَةِ معَ الله، وَعن رؤيةِ حياتِه كإفخارستيّا وعبادةٍ وشُكر؛ لأنّه أحبَّ نفسَهُ مِن أجلِ ذاتِها، وأحبَّ العالَمَ مِن أجلِ ذاتِه. جعلَ نفسَهَ جوهرَ حياتِهِ ونهايتَها. ظَنَّ أنَّه يمكنُ أن يُشبِعَ جُوعَهُ وَعَطَشَهُ مِنَ العالَمِ والطَّعامِ بِحَدِّ ذاتِهِما. إلاّ أنَّ العالَمَ والطَّعامَ لا يَملكانِ حياةً في ذاتِهما، لذلك، عندما يُحبُّهما الإنسانُ يَنحرفُ عن الغايةِ الوحيدةِ الّتي هي موضوعُ كلِّ حُبٍّ وَكُلِّ جُوعٍ وَكُلِّ رغبة.. فَيَجِدُ الموت.
ولمّا جاءَ المسيح، كَشَفَ لَنا أنّ ملكوتَ اللهِ هُوَ طعامُ الإنسانِ الحقيقيُّ، وحياتُهُ الحقيقيّةُ. وهٰذه الحياةُ الحقيقيّةُ قد أعطِيَتْ للنّاسِ بِيَسُوعَ المسيح. لِذٰلكَ أَعطانا ذاتَهُ كَطَعامٍ حقيقيٍّ. وهٰذا هُوَ معنى العشاء الأخير.
وهٰذا التّدبيرُ الإلٰهيُّ ابتدأ في الفردوس، عندما أعطى اللهُ الإنسانَ كُلَّ أصنافِ الأشجارِ المُثمِرَة، وأمرَهُ أنْ يأكُلَ منها. والآنَ المسيحُ يُعطِينا ذاتَهُ ويَأمرُنا أن نأكل: "خُذُوا، كُلُوا". في البداية، كان الطّعامُ حياةَ الإنسان، أمّا الآن، فالمسيحُ هُوَ حياةُ الإنسان.
العشاءُ الأخير هُوَ إعادةُ الحياةِ كَشَرِكَةٍ معَ الله واتِّحادٍ به. هُوَ ساعةُ ذُروةِ المحبّة.
ولكنَّ ساعةَ ذُروةِ المحبّةِ هِيَ أيضًا ساعةُ ذُروةِ الخيانة، إذْ غادرَ يَهُوذا نُورَ العِلِّيَّةِ وذَهَبَ إلى الظُّلمة. وكانَ دافِعَهُ حُبُّ المال، وَهُوَ حُبٌّ مُنحَرِفٌ ومَسرُوقٌ مِنَ الله؛ لأنَّ الإنسانَ خُلِقَ لِيُحِبَّ الله وَبِالله، إلاّ أنَّه عندما يُحَوِّلُ طاقةَ الحُبِّ الّتي فيه إلى المال ، يَصيرُ حُبُّهَ شهوةً هَدّامةً وَمُظلِمَةً نِهايتُها المَوت.
الحادِثَتانِ تَدُورانِ حولَ المحبّة: فالعشاءُ الأخيرُ هُوَ نِهايَةُ كَشفِ اللهِ محبَّتَهُ الفادِيَةَ لِلإنسان، إذْ بَدأَ هٰذا الكَشفُ بِالخَلْقِ، وها هُوَ الآنَ يَكتَمِلُ بِمَوتِ المسيحِ وقِيامَتِه؛ وخِيانَةُ يَهُوذا ناتِجَةٌ عَنِ المحبَّةِ المُنحَرِفَةِ والمُشَوَّهةِ الّتي تتّجهُ نحوَ شيءٍ لا يستحقُّ المحبّة.
سِرُّ يَومِ الخميسِ العظيمِ تِلكَ المُفارَقَةُ العجيبةُ بَينَ النُّورِ والظَّلام، الفَرَحِ والحُزن، بِحَيثُ يَضَعُ أمامَنا تَحَدِّيًا أنْ نختارَ بينَهما، وعلى اختيارِنا يَتَوَقَّفُ مَصيرُنا الأَبَدِيّ.
يطرحُ المؤمنُ على وِجدانِهِ السّؤالَ التّالي: هَلْ إنَّ مَحَبَّتي للرَّبِّ يَسُوعَ هِيَ مِثلُ مَحَبَّةِ يُوحنّا، أم مِثلُ مَحَبَّةِ يَهُوذا؟!
 
الخميس العظيم، مساءً:
مساءَ اليومِ نفسه، نُقِيمُ خِدمةَ أناجيلِ الآلام، الّتي هِيَ خِدمةُ سَحَرِ الجمعة وفيها نَتلُو اثنَي عَشَرَ مقطعًا مِنَ الأناجيل، تَرْوي وَقائعَ آلامِ الرَّبّ. وفي هٰذه الخدمةِ نَقُومُ بزيّاحِ الصّليبِ على وَقْعِ ترنيمةِ "اليومَ عُلِّقَ على خَشَبة"، ثُمَّ نَنصُبُ الصَّليبَ في وسطِ الكنيسة.
 
الجمعة:
يَومَ الجمعةِ العظيم، صباحًا، نُقِيمُ خدمةَ إنزالِ المصلوب، الّتي تتألَّفُ مِنَ السّاعاتِ وصَلاةِ الغُروب. في أثناءِ تِلاوةِ إنجيلِ صلاة الغُرُوب، نَلُفُّ الصَّليبَ بقُماشٍ أبيضَ وَنُخْفيهِ. وعند ذكصاستيكون الأبوستيخُن، نقومُ بزيّاحِ الإبيطافيون مرتِّلِينَ: "أيّها المتردّي النّورَ كالسِّربال"، ثُمَّ نضعُ الإبيطافيون في وسطِ الكنيسة، مكانَ الصَّليب، تذكارًا لِما فَعَلَهُ يُوسُفُ وَنِيقُوديموس.
الإبيطافيون يَرمُزُ إلى قَبرِ المسيح، لذٰلكَ نجتمعُ مساءً وَنُنشِدُ تَقارِيظَ جُنّازِ المسيحِ المدفُونِ رَمزِيًّا في الإبيطافيون. خدمةُ الجنّازِ هِيَ صَلاةُ سَحَرِ السَّبت، تُضافُ إلَيها التّقاريظُ ونبوءةُ حزقيال (1:37-15)، ورسالةٌ وإنجيل.
يَومُ الجمعةِ العظيمُ رمزٌ لِلظُّلْمةِ، لأنَّ قَتلَ المسيحِ هُوَ خطيئةُ الخطايا وَجريمةُ الجرائم؛ إلاّ أنّهُ في الوقتِ نفسِهِ يَومُ الفِداءِ، لأنَّ موتَ المسيحِ هُوَ موتٌ خَلاصِيٌّ لَنا. كيفَ ذلك؟ وماذا نَعني بِقَولِنا إنَّ المسيحَ ماتَ عَنّا، أوِ افتَدانا بِمَوتِه؟ الجوابُ أنَّ الموتَ هُوَ ثَمَرَةُ الخطيئة، إذْ عندَما اختارَ الإنسانُ أن يبتعدَ عَنِ اللهِ دُونَ أن يَملِكَ حياةً في ذاتِهِ، مات. أمّا المسيحُ فلا خطيئةَ فيه، إذًا لا مَوتَ فيه، ومعَ ذٰلِكَ ارتَضى أن يَمُوتَ حُبًّا بِنا فَقَط. لذٰلِكَ مَوتُهُ حَطَّمَ مَصدرَ المَوتِ نفسَهُ، أَيِ الشَّرّ.
لِكَي يَنتصرَ الشَّرُّ، عليهِ أن يُزِيلَ الخَيرَ وَيُخزِيَهُ وَيُظهِرَ تَفَوُّقَهُ عليه. وهٰذا لَم يحصلْ، لأنَّ المسيحَ في خلالِ آلامِهِ كُلِّها كانَ هُوَ المنتصر: ظَهَرَتِ المُراءاةُ مُراءاةً، والقَتلُ قَتلاً، والخَوفُ خَوفًا. وَكُلَّما تقدَّمَ المسيحُ صامتًا مِن صليبِه، اتَّضحَ انتصارُهُ ومجدُهُ وغَلَبَتُهُ على الشِّرِّير. ونرى أنَّ هٰذا الاِنتصارَ يُعلَنُ وَيُعتَرَفُ بِهِ: زوجة بيلاطس، يوسف الرّاميّ، اللصُّ المصلوب، قائدُ المئة.
لذٰلكَ، رُغمَ كَونِ يومِ الجمعةِ يومَ ظُلمة، تَفُوحُ مِنه رائحةُ القيامة. ويظهرُ ذٰلكَ واضحًا مِن خلالِ ألحانِها الفَرِحةِ وَمَضامِينِها القِيامِيّة.
 
السّبت:
صباحَ السَّبتِ العظيم، نُقيمُ خدمةَ قُدّاسِ سَبتِ النُّور، مُتَرَقِّبِينَ انتِصارَ المسيحِ على الموت، وَمُرَنِّمِينَ المزمور الحاديَ والثّمانين: "قُمْ يا الله واحكُمْ في الأرض، لأنَّكَ أنتَ تَرِثُ جميعَ الأُمَم"، بِفَرَحٍ، عَبْرَ قَرْعِ الأجراسِ وَرَشّ أوراقِ الوَردِ وَالغار.
يَومُ السَّبتِ العظيم هُوَ الّذي يربطُ الجمعة بالأحد، الصَّليبَ بالقيامة. هُوَ اليَومُ الّذي يَتِمُّ فيه "تَحويلُ" الحُزنِ إلى فَرَحٍ. لأنَّ حُزنَ يومِ الجمعة لا يُستَبدَلُ بِسَذاجةٍ بالفَرَحِ يومَ الأحد، بَلِ الحُزنُ نفسُهُ يَتَحَوَّلُ إلى فَرَحٍ.
في هٰذا اليومِ نحنُ نَصمُتُ، نتهَيَّبُ، نتأمَّلُ. ما نزالُ واقفِينَ أمامَ القَبرِ، ولكنَّنا مُتَيَقِّنُونَ مِن أنَّ الحياةَ تَرتاحُ فيه.. وأنَّ خليقةً جديدةً تُولَدُ منه.. وأنَّ الله، مرَّةً ثانيةً، يستريحُ في اليَومِ السّابعِ مِن كُلِّ أعمالِه.
يومُ السَّبتِ العظيمِ يُشبِهُنا نحنُ الَّذِينَ اعتمدنا بالمسيحِ القائمِ، وما زِلْنا في هٰذا العالَم، وما زالَ الموتَ نصيبَنا. المسيحُ قائمٌ غدًا، ولٰكِنَّنا نحنُ سنقومُ فيما بَعدُ، على صُورَةِ قِيامَتِهِ هٰذه. إنَّ صمتَ السَّبتِ العظيمِ رمزٌ لِحَياتِنا في هٰذا العالَم. نحنُ دائمًا في هٰذا اليومِ "الوَسطِ"، ننتظرُ فصحَ المسيح، مُهَيِّئِينَ أنفُسَنا لِيَومِ مُلكِهِ الّذي لا يَغرُب.
 
الأحد:
صباحَ الأحدِ نحتفلُ بقيامةِ المسيحِ المجيدة، وتحطيمِه أبوابَ الجحيم، وفَتحِ أبوابِ السَّماء. نحتفلُ بانبِلاجِ فجرِ العصرِ الجديد، عصرِ الخلاص.
 
العَطِيَّةُ العُظمى الّتي نتَلَقّاها في الأُسبوعِ العظيم هِيَ مَحَبَّةُ اللهِ المُتَجَسِّدةُ. ونَشعرُ بِأَنْ "لا عُلُوَّ وَلا عُمقَ وَلا خَليقةٌ أخرى تقدرُ أن تفصلَنا عن محبّةِ اللهِ الّتي في المسيحِ يَسُوعَ رَبِّنا" (رو 39:8).