عَيشٌ لا كَلام

       الأرضُ تَظمأُ إلى المَطَر، يَنزِلُ عليها مِنَ السَّماءِ غَيثًا مُنعِشًا؛ وكذلكَ النَّفْسُ تَظمأُ إلى كلمةِ الله، تَتَنَزَّلُ عليها مِن فَوق، غَيثًا يُلَطِّفُ صَلابَتَها، وَيَغسِلُ كَآبَتَها، وَيُنْعِشُ بِذارَ الرُّوحِ القُدُسِ فيها، فَيَنبُتُ وَيَعلو.
       لَو كانَ الإنسانُ تُرابًا وَحَسْبُ، لَكَفاهُ التُّرابُ غِذاءً، وَلأَنْعَشَهُ وَأَسْعَدَهُ ما في العالَمِ المَنظُورِ مِن مادّة. لكنَّ في الإنسانِ نَسمةً إلهيَّةً مُنذُ خَلْقِهِ الأَوَّل، تَحَطَّمَتْ وَتَشَوَّهَت بالخطيئة، فَأُصْلِحَتْ، لا بَل أُعِيدَ خَلْقُها بِيَسُوعَ المسيح. هذه النَّسمةُ الإلهيّةُ لا يُغَذّيها طَعامٌ وَلا شَرابٌ وَلا مالٌ وَلا مُمتَلَكاتٌ وَلا لَذّةٌ وَلا مَجد. هذه كُلُّها تُسِفٌّ بالإنسانِ إلى الحضيض، وَتُعَزِّزُ فيه تُرابِيَّتَهُ، وَتُؤَجِّجُ نَزْعَةَ السُّقُوط، لِيَبقى الإنسانُ لَصيقًا بالتُّراب. الإنسانُ يَتَغَذّى بِما يأتيهِ مِنَ الله. إِنَّهُ يَعطَشُ إلى الله، يَجُوعُ إلى الله. وَما عليهِ سِوى الاستِجابَةِ لِنِداءِ الرُّوح، وَتَغْذِيَةِ تُرْبَةِ النَّفْسِ بالرُّوحِيّات، وَإِيلاءِ عالَمِهِ الدّاخِلِيّ اهتِمامًا جادًّا.
       ولكنْ، أين أَعثُرُ على كلمةِ الله؟ إنّها في الكتابِ المُقَدَّس. إذًا، كيفَ لي أن أَتَلَقَّفَها؟ هل يكونُ ذلك بِحِفْظِ الكتابِ المُقَدَّسِ عن ظَهْرِ قَلْب؟ هل يكونُ بِتَتَبُّعِ كُلِّ الدِّراساتِ والنَّظَرِيّات؟ إذا فَعَلْتُ ذلك أُصبِحُ "عالِمًا"، لكنَّني لا "أَحيا". كلمةُ اللهِ المُحْيِيَةُ تُؤْخَذُ عَيشًا. لذلك شَدَّدَ الرَّبُّ على أنَّ العِبادةَ للّه تكونُ "بالرُّوحِ والحقّ"، وعَلَّمَنا عن وِلادةٍ غيرِ الولادةِ مِن لَحْمٍ وَدَمٍ، تِلكَ الّتي مِنَ فَوق، مِنَ الله، الوِلادةِ الرّوحِيّة. وَرَبُّنا نفسُهُ لَم يَكْتُبْ إِنجيلاً، بل كانت حياتُهُ الإنجيلَ، وَنَقَلَ رِسالَتَهُ إلى تَلامِيذِهِ عَيشًا وَمُمارَسَةً، مَعَ ما يُرافِقُ ذلكَ مِن أَعراقٍ وأَتعابٍ وَمُكابَدات، وَأَرسَلَهُم لِيَشهَدُوا لَهُ بِأَنفُسِهِم، صائِرِينَ أبواقًا للكرازة. هكذا تُنقَلُ كلمةُ اللهِ إذًا: بِعَيشِها، لا بالتَّطبيلِ والتَّزميرِ لَها.
       مِن هُنا، كان على المسيحيّ الّذي يَرغَبُ في نَقْعِ غَليلِهِ الرُّوحِيّ، أن يَلجَأَ إلى كَنَفِ القدّيسِين، وَمِن سِيَرِهِم وَأَقوالِهِم الحكيمةِ وَخُبراتِهم وَنَوادِرِهم يأخُذُ الإنجيل كَما أَرادَهُ الرَّبُّ، حَيًّا وَمُحْيِيًا.