أَقوى مِن حَدِّ السَّيف

       مُنذُ القديمِ عَرَفَ الإنسانُ، بِما قَدَّمَتْ لَهُ الحَياةُ مِنْ خبرة، أَنَّ القُوَّةَ الحَقيقيَّةَ لا تَكُونُ بِالسِّلاح، وَأَنَّ هُناكَ ما هُوَ أَقْوى نَفاذًا وَأَمضى حَدًّا مِنَ الحديد.
       وَبِهذا السِّياق، اعْتَبَرَ حَبِيبُ بْنُ أَوس، الشّاعرُ العَبّاسيّ المعروف بأبي تَمّام، أَنَّ مَمدُوحَهُ (الخليفة المعتصم)، عِندَما يَقُودُ جَيشَهُ إلى مَعرَكَةٍ ما، يَنتَصِرُ، لا بِسَبَبِ قُوَّةِ الجَيشِ وَعِتادِه، بَلْ بِسَبَبِ وُجُودِهِ شَخصيًّا مَعَ هذا الجَيش، وَما يَفرضُهُ هذا الوُجُودُ مِنْ مَهابَةٍ تُوقِعُ الرُّعْبَ في قُلُوبِ أَعدائِه، فَيَنهَزِمُونَ قَبلَ المعركة:
لَمْ يَغْزُ قَومًا، وَلَم يَنهَضْ إلى بَلَدٍ                  إِلاّ تَقَدَّمَهُ جَيشٌ مِنَ الرُّعُبِ
لا بَل إنَّ صِيتَهُ يُغْنِيهِ عَنِ جَيشٍ كَبير:
لَوْ لَمْ يَقُدْ جَحْفَلاً يَومَ الوَغى، لَغَدا       مِنْ نَفْسِهِ وَحْدَها في جَحْفَلٍ لَجِبِ
       وَمِنْ هذا القَبيلِ أَيضًا ما خاطَبَ بِهِ أَحَدُ شُعَراءِ البادِيَةِ مَمدُوحَهُ، مُعتَبرًا أَنَّ لِحاظَهُ أَمضى مِن حَدِّ السَّيف:
دَعْ عَنكَ ذا السَّيفَ الَّذي جَرَّدْتَهُ                   عَيناكَ أَمضى مِنْ مَضارِبِ حَدِّهِ
       لَقَدَ صَدَقَ أُولئكَ الشُّعَراء بِقَولِهِمْ إِنَّ السِّلاحَ لا يَعْصِمُ الإنسانَ مِنَ الخَطَأ وَلا يَقِيهِ مَكائِدَ الشِّرّير. وَإِذا ذَهَبْنا إِلى نُقطَةٍ أَبْعَد، قُلْنا إِنَّ كَوْنَ المرءِ صاحِبَ سُلْطَةٍ لا يَعني أَنَّهُ على صَوابٍ في ما يَقولُ أو يَفعل. والمِثالُ الواضِحُ على ذلك هُو هِيرودس أَنتيباس، وَالَّذي أَحَلَّ لِنَفْسِهِ أَخْذَ امْرَأَةِ أخيهِ وأَخُوهُ حَيٌّ يُرْزَق، وَأَحَلَّ لِنَفْسِهِ كُلَّ ما طابَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، ضارِبًا بِعُرْضِ الحائطِ كُلَّ نامُوسٍ وَكُلَّ وَصِيّة.
       كانَ السَّيفُ بِيَدِهِ، فَاسْتَغَلَّهُ لِقَضاءِ شَهَواتِه، وَتَحقيقِ نَزَواتِه.
       ظَنَّ أَنَّ ذلكَ يَعني القُوَّة، فَاطْمَأَنَّ إلى وَضْعِه، وَاسْتَرْخى، وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ إلى حَياةِ المُجُونِ وَالخَلاعة.
       أَينَ كانَتِ القُوَّةُ الحقيقيَّةُ يا تُرى؟! إِنَّها كانت كامِنَةً في يُوحنّا المعمدان، الّذي كانَ أَعْزَلَ، لا يُؤمِنُ بِسِلاحِ الحديد، لأَنَّ نَفسَهُ كانَتْ فُولاذِيَّةَ الصَّلابَة، بِما كانَ عَلَيهِ مِنْ تَقَشُّفٍ وَنُسْكٍ وَصَومٍ وَصَلاة. إِنْتَصَرَ عَلى نَفْسِهِ، حِينَ انتَصَرَ على تُرَّهاتِ الرَّذِيلة، فَسَيطَرَ عَلَيها قَبْلَ أَنْ تَتَمَكَّنَ مِنْ إِغْوائِه. لِذلك، كانَتْ كَلِمَتُهُ أَمضى مِنَ السَّيف، لأَنَّهُ كانَ حُرًّا، غَيرَ مُسْتَعْبَدٍ لِشَيء، وَكانَ قَوِيًّا غَيرَ خاضِعٍ لِتَهْدِيد.
       وَرُبَّ قائِلٍ: كَيفَ يَكُونُ أَقوى مِنَ السَّيفِ، وَالمَعروفُ أنَّ السَّيفَ قَطَعَ عُنُقَه؟!
       نُجِيبُ: إِنَّهُ أَقوى مِنَ السَّيف، لأَنَّهُ لَمْ يَخَفْ مِنهُ. إِنَّهُ أَقوى مِنَ السَّيفَ، لأَنَّهُ لَم يُبَدِّلْ مَوقِفَهُ، وَلم يُعَدِّلْ كَلامَهُ عِندَما واجَهَ السَّيف. كانَ يَقِفُ في حَضرَةِ المَلِك، الَّذي بِيَدِهِ كُلُّ النُّفُوذ، وَالَّذي تُحِيطُ بِهِ الرِّجالُ والرِّماحُ وَالسُّيُوف، وَيَتَوَجَّهُ إِلَيهِ بِكَلامِ التَّوبيخ. وَهُنا القُوَّة: مَوقِفٌ يَنِمُّ عَنْ مَحَبَّةٍ لِلمَلِكِ وَغيرةٍ على إسداءِ النُّصْحِ المُخلِصِ لَهُ، كَما يَنِمُّ عَن مَحَبَّةٍ لِلّهِ وغيرةٍ على شَريعَتِهِ، حَتّى إِذا انتَهَكَها إنسانٌ وَجَبَ على رَجُلِ اللهِ تَوبيخُه، حَتّى ولو كانَ المُوَبَّخُ مَلِكًا.
       إِنتَصَرَ يُوحنّا المعمدانُ على السَّيف، لأَنَّ السَّيفَ لَم يَمْنَعْهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ، وَأَنْ يَقُولَها بِمِلْئِها، وَبالفَمِ المَلآن، وَبِقَلْبٍ غَيرِ مُرتَجِف. السَّيفُ انْهَزَمَ أَمامَ الهامَةِ الّتي قَطَعَها، لأَنَّهُ وُضِعَ في غَيرِ مَوضِعِه، وَنَفَّذَ رَغْبَةَ امرأةٍ فاجرة، فَلَحِقَهُ العارُ وَالهَوان. وَالسَّيفُ انْهَزَمَ أَمامَ المعمدان، لأَنَّ مَوقِفَهُ الجَريءَ وَالمُحِقَّ ثَبَتَ، رُغْمَ قَتْلِه، سَواءٌ في أَعْيُنِ النّاس، أَمْ في عَينَيِ الله.
       لِهذِهِ الهامَةِ الكُبْرى، لِهذا النَّبِيِّ العَظيم، لِهذِهِ الغيرةِ الإلهيّةِ، نُعَيِّدُ اليَوم، آمِلِينَ أَنْ نَتَعَلَّمَ مِنْ جُرْأَةِ المَعمدان، فَنَعتَصِمَ بِحَبْلِ الإنجيلِ سِلاحًا تَسْقُطُ دُونَهُ كُلُّ الأسلحة. آمين.