عَطَشِي إلَيك

      أنا في الأرضِ غَريبٌ، أَجُولُ فِيها طَرِبًا لِوَقْعِ خُطُواتي، مُتَوَهِّـمًا أَنَّ بَيني وَبَينَها مِيثاقَ مَعرفةٍ، أَو أَنَّني أُسَجِّلُ على أَدِيـمِها شيئًا مِن ذاكرة... فَإذا بِـها تَنبُذُني وَتَـجهَلُني، وَتُقابِلُ إقبالي بِإدبارٍ وَبُرُودة.
      يَبسِمُ لِيَ الـحَظُّ، فَأُحرِزُ شَيئًا مِنْ مالٍ أو مُـمتَلَكاتٍ، وَأُنَصِّبُ نَفسي سَيِّدًا عَلَيها: لِـيَ الكَلِمَةُ، وَلِـيَ القَرارُ، وَلِـيَ التَّصَرُّف... فَإِذا أَنا صِفْرُ اليَدَينِ، خَلَتْ يَدايَ إلاّ مِنَ الـهَباء، لأَنَّ كُلَّ ما أَمْلِكُهُ فاسِدٌ، يَأكلُهُ السُّوسُ وَيَنْقُبُ عليهِ السّارِقُون.
      وَأَجُولُ بَينَ أَترابـي مُستَجْدِيًا كَلِمَةَ إِطراءٍ، وَكأَنَّ في مَديـحِهِم لِي تأكيدًا لِوُجُودي... وَأَتَـمادى في طَلَبِ الـمَجد، فَتَتَعاظَمُ فِـيَّ الـ "أَنا"... فَإِذا مَـجدي كَمَجدِ زَهرَةٍ في الحقلِ، أَسْكَرَها زَهْوُها فَنَسِيَتْ أَنَّـها على بُعْدِ خُطْوَةٍ مِنَ الذُّبُولِ وَالسُّقُوط... وَإِذا كُلُّ ما بَنَيتُهُ وَهْمٌ تَبَدَّدَ في الـهَواء.
      وَأَتْبَعُ نِداءَ اللَّذائِذِ كَمَنْ يَتْبَعُ السَّراب، فَلا أَنا أَرتَوِي وَلا أَعرِفُ استِقرارًا... وَيَقْتُلُني ظَمَأٌ إلى ماءِ الدُّنيا، يَصْرِفُني عَن ظَمَإِي إلى ماءِ الحَياة.
      لكِنَّني مُذْ عَرَفْتُكَ يا يَسُوع، وَدَعَوتَني إلى وَطَنٍ ليسَ مِن هذا العالَم، صارَتْ غُربَتي وَطَنًا لِي، لأَنَّكَ مَسَحْتَها بِـحُضُورِك... وَرُحْتُ أَقْتَفي آثارَ خُطُواتِكَ ساجِدًا وَمُهَلِّلاً... وَأَيقَنْتُ أَنَّ ما في حَوزَتـي يَـجِبُ أَن يُوَزَّعَ لِكَي يَكُونَ لِـي، وَإِلاّ فَهوَ يَستَعبِدُنـي وَيَـجذِبُني إلى الـهاوِية... وَآمَنتُ أَنَّ الـمَجدَ الـحقيقيَّ يَكُونُ بالانتِصارِ على الـمَوت، وَقَدِ انتَصَرتَ عليهِ لأنَّهُ لَـم يَـجِدْ فِيكَ خطيئَةً، فَعَرَفْتُ أنَّ عَلَيَّ أَن أُجاهِدَ ضِدَّ خَطاياي...
      مُنذُئِذٍ يا يَسُوعُ الـحُلْوُ، فَهِمْتُ أَنَّكَ أَنتَ وَحْدَكَ الطَّريقُ وَالـحَقُّ وَالحَياة، وَبِتُّ لا أَجُوعُ وَلا أَعْطَشُ إِلاّ إلى مَلَكُوتِكَ وَبِرِّك. فَصارَ الـمَوتُ لِـي رِبْـحًا، لأَنَّهُ بابُ الانتِقالِ مِنَ الفَسادِ إلى عَدَمِ الفَساد، وَالمَعبَرُ الّذي يُفْضِي إلى جِنانِكَ الفَسيحة.