أينَ الْتَقَيتُ حبيبي؟

أَوَّلُ لِقاءٍ لِي مَعَ الرّبّ يسوعَ المسيح كانَ في بيتي.. رَعيّتي الحميمةِ الصّغيرة .. العشّ الّذي فيه أبصرتُ النّور، وفيه عَرَفَ جسمي الطَّرِيُّ الزَّغَبَ ثُمَّ الرّيش.. وفي مَدارِهِ تَعَلَّمتُ كيفَ أُرفرِفُ وَأطير، قبلَ أن أنطلقَ إلى الأجواءِ الخارجيّةِ البعيدة وأواجهَ الطيرانَ الخَطِير...

هُناكَ أَطَلَّ عَلَيَّ وَجهُ يَسُوعَ المسيح، وعَرَفتُهُ لِي رَبًّا، وَالْتَقَيتُهُ حبيبًا، وخَبَرْتُهُ شافِيًا وَمُنقِذًا.

هُناكَ عَرَفتُ مريمَ العذراءَ شفيعةً حارّةً حنُونًا، وَمُحامِيَةً قَوِيّة، وَتعلَّمتُ أَن أُناجِيَها كُلَّ يَوم.

هُناكَ تَرعرَعتُ أمامَ عَينَيْ شَفيعِي، الّذي كانَ يُطِلُّ عَلَيَّ باستمرارٍ مِن خلالِ إيقونتِهِ المعلَّقةِ في غرفةِ نومي، وَمِن خلالِ سيرتِهِ الّتي كانَ أبي يَروِيها لي قَبلَ أن أَفقَهَ القراءة.

يومُ الأحدِ يومٌ شَهِيٌّ، رائعٌ، أنتظرُهُ طِيلةَ أيّامِ الأسبوع، مَوعُودًا بِه، لأنَّهُ اليومُ الّذي أرتدي فيه الثِّيابَ الأنيقةَ، وكذلك إخوتي ووالدي ووالدتي، ونذهبُ جميعًا إلى الكنيسة، لنعيشَ حياةَ ربِّنا وفادينا يسوع المسيح. لا أَذكُرُ أَنَّ يومَ الأحدِ مَرَّ يَومًا على عائلتي من دُونِ الذَّهابِ إلى الكنيسة. وكنتُ الْتَذُّ بطروباريَّةِ اللحنِ المُوافق، لأنَّ والِدَيَّ علَّماني طروباريّاتِ الألحانِ الثَّمانية، وكانت بالنّسبةِ إلى ذاكرَتي السَّمعِيّة الغَضَّة، الأناشيدَ الأُولى .. وكَبرتُ، وَوَعَيتُ، وَصِرتُ أَفهمُ معانِيَها، وَلم يُفارِقْني شُعُورُ اللَّذَّةِ كُلَّما سَمِعتُها أَو أنشَدْتُها. أَمّا إذا طَلَبَ مِنّي الكاهنُ أَن أحملَ الشَّمعةَ أو الصَّليب في الإيصودن، فإنَّني كُنتُ أُلَبِّي الطَّلَبَ بِتَهَيُّبٍ؛ ذلكَ أنَّ كُلَّ الموجُودينَ في الكنيسةِ يَنظُرُونَ إِلَيّ، وأنا أُشارِكُ في خِدمةٍ إلٰهِيّةٍ سَماوِيّة. نعم.. كُنتُ أَشعُرُ بِهٰذِهِ الرَّهبة، لأنّني كُنتُ أَقرأُها في أَعْيُنِ والِدَيّ، وَفي صَمتِهِما الخاشِعِ في أثناءِ الصّلاة.

سَهَراتُ الشِّتاءِ كانت تُزَيِّنُها سِيَرُ القدِّيسِينَ، يَتلُوها أحدُ أَفرادِ الأُسرة، ثُمَّ يأتي الشَّرحُ والتّعليق، واتِّخاذُ العِبَر. لَم أَعرِفِ القِدِّيسِين بَعِيدِينَ عَنِّي، بَلْ نماذِجَ حُلْوَةً، أَعشَقُها، وَأُجِلُّها، وأَرغَبُ في السَّيرِ على خُطاها. وعندما كبرتُ وانطلقتُ إلى العالَمِ الواسع، لَم تستطعِ الأفكارُ المُشكِّكَةُ أن تَنالَ مِن إيماني وإخلاصي للرَّبِّ يَسُوعَ المسيح أو لأُمِّهِ، أو لأحدِ قدِّيسِيه.

كانَ كلامُ الهراطقةِ الَّذِينَ أَلْقاهُم بَينَ الفَينةِ والفَينةِ يُغِيظُني، لأنَّني كُنتُ أَشعُرُ بأنَّهُ بعيدٌ كُلَّ البُعدِ عَنِ الحَقّ.. الحَقِّ الّذي تَلَقَّفْتُهُ حَياةً، وامتزَجَ بِدِمائي، وتَخَلَّلَ شَهيقي وزَفيري. لم أَكُنْ في البدايةِ أَعرفُ لِماذا، إلاّ أنّني كُنتُ متأكِّدًا أنَّهُ كلامٌ خاطئٌ وَشِرِّيرٌ، وأنَّ يسوعَ لا يَرضى عنه. وكنتُ أُناجي يسوعَ وأقول: يا سَيِّدي وحبيبي، يا رَبِّي يَسوعَ المسيح، يا مَن تألَّمتَ لأجلي، فَعَشقتُكَ مَصلُوبًا، وَعَيَّدْتُ بِكَ قائمًا، يا أحدَ أَقانيمِ الثّالُوثِ الأقدَس، الآنَ عرفتُ مَن طَعَنَكَ وَمَن شَتَمَكَ وَمَن أَهانَك.. التّعاليمُ الشّاذّةُ تُبعِدُ النّاسَ عنك، إلاّ أَنّني أَعِدُكَ بِأَنَّني لَن أبتعدَ عنك، وَسأظَلُّ أَبحَثُ عَنِ الحقائقِ المتعلِّقةِ بِكَ في الكُتُبِ الدّينيّةِ الكثيرةِ الموجودةِ في بيتِنا. عندي كتابُ العهدِ الجديد الخاصُّ بِي، وَعندي كُتُبٌ فيها سِيَرُ قدِّيسِين، وَعندي كُتُبٌ في التّعليمِ الدّينيّ، فيها أَبرَزُ قِصَصِ العهدِ القديم، وفيها شرحٌ للأعيادِ الكَنَسِيَّةِ، وَفيها تفسيرٌ للعقائدِ المسيحيّةِ المستقيمة. ولن أكتفيَ بها، بَل سأبحثُ عن كُتُبٍ مستقيمةٍ أُخرى، لأنَّني، لأجلِ مَحبَّتِكَ المُتَأَصِّلَةِ بي، والمُتَجَّذِّرَةِ في نفسي مُنذُ نُعُومَةِ أَظْفاري، وَكُرمى لِوالِدَيَّ اللَّذَينِ عَلَّماني مَحَبَّتَكَ والإيمانَ بك، سأبذُلُ جهدي لزيادةِ معلوماتي عن كلِّ الأشياءِ المختصَّةِ بِكَ، لِكَي أكونَ قَوِيًّا في وجهِ جميعِ الهراطقةِ الَّذينَ يُجَدِّفُونَ علَيكَ في حُضُوري. نَعم، سَأَكُونُ على قدرِ استطاعتي رَسُولاً لَكَ، أَطرُدُ الذِّئابَ الخاطفةَ مِن بَيتِي، وَمِن بُيُوتِ الجيران. لَن أَخُونَكَ، يا مَنْ يربطُني بِكَ عَهدٌ كَتَبتَهُ بِدَمِكَ، وجعَلْتَني فيه شَريكًا عندما قَبِلْتُ المعمودِيَّةَ المقدَّسَةَ على إيمانِ وَالِدَيَّ وَعَرّابي.

أَوَّلَ ما رَأيتُكُ، كانَ ذلكَ في عائلتي الحميمةِ الصَّغيرة، والآنَ أَيقَنْتُ أَنَّكَ تُرِيدُني عُضوًا في عائلتِكَ الكبيرة، في مَلَكُوتِكَ السَّماوِيّ. آمين.