شجاعةُ المحبّة

       لَيسَ في الدُّنيا دافِعٌ للشَّجاعةِ أَقوى مِنَ المحبّة. المحبّةُ الحقيقيّةُ تدفعُ صاحبَها إلى العطاءِ بِلا حسابٍ وَبِلا حُدود، حَتّى المَوت. تجعلُ صاحبَها يَخافُ على مَن يُحِبُّ أكثرَ مِن خَوفِهِ على نفسِه. بهذا المعنى، المحبّةُ الحقيقيَّةُ تصنعُ المعجزات. تجعلُ الإنسانَ يُقدِمُ على أُمُورٍ لم يَكُنْ لِيُقدِمَ عليها في الأحوالِ العاديّة.
       وليستِ الشّجاعةُ، لَعَمري، في خَوضِ المعارِكِ وَإحرازِ البُطُولات، بَلْ هِيَ في مُمارَسَةِ المحَبَّةِ، وعَيشِها بشكلٍ عَمَلِيّ. لَيسَ البَطَلُ مَنْ يَبطُشُ بِالآخَرِين، بَل مَنْ يَبذُلُ نفسَهُ فِداءً عَنهُم.
       مِن صِفاتِ الشُّجاعِ الإقدامُ. نَقولُ عَنِ الشُّجاعِ إِنَّهُ مِقدامٌ، أَيْ عِندَهُ الجُرأةُ الكاملة لِكَي يُقدِمَ على فِعلِ أمرٍ صَعبٍ، لا يتجرَّأُ الآخَرُونَ على القِيامِ به. وأيضًا أنَّه يُقْدِمُ عليهِ دونَ تَرَدُّد. وأنتَ، في حَياتِكَ الرُّوحِيّة، كُنْ مِقدامًا. لِتَكُنْ عندَكَ الجُرأةُ على فِعلِ ما يتردَّدُ الآخَرُونَ عَن فِعلِه. لا تَتَرَدَّدْ وَلا تُحْجِمْ عَن مُساعَدَةِ أَخٍ ضعيفٍ أنتَ قادِرٌ على مساعدَتِه.
       أنتَ تُرِيدُ أن تَفعلَ الصَّلاح، ولكنْ... هُنالكَ أفكارٌ وَوَساوِسُ تَنخُرُ رأسَك: أفكارٌ تتصارَعُ في داخِلِكَ: "أنا لَن أُساعدَ فُلانًا لأنَّهُ لا يستحقّ"- "هذا الشّخصُ يستحقُّ المساعدة، ولكنّني لَن أُساعدَهُ اليومَ.. لا وقتَ لديّ.. رُبّما أُساعِدُهُ غَدًا"- "إذا أعطَيتُ ذاكَ المحتاجَ مِن مالي سوفَ تنقصُ ثروتي، ورُبّما أصبحتُ عاجِزًا عَن العيشِ برَفاهيةٍ كما كنتُ معتادًا"- "ذلكَ المُشَرَّدُ يَمُرُّ بِظُروفٍ قاسية، وبِإمكاني أن أدعمَهُ في هذه المرحلة، إكرامًا لأطفالِه.. ولكنْ.. وَهَل أنا مُلزَمٌ بِمُساعدتِه؟ فَلْيُساعِدْهُ سِوايَ.. فَلْتُساعِدْهُ الجمعيّاتُ الخيريّة"... وغيرُ ذلكَ مِنَ الوَساوِسِ الكَثيرُ الكَثير...
       أنتَ تريدُ أن تفعلَ الصَّلاح.. عندَكَ النيَّةُ الحَسَنة، وعندكَ الإيمان، وقد حفظتَ الوصايا منذُ صَبائِكَ. وعندما تتذكّرُ أقوالَ الرَّبِّ يسوع، وتعاليمَهُ الّتي تُرَكّزُ على العطاءِ وَعلى بَذلِ الذّاتِ في سبيلِ الآخَرِين، كُلِّ الآخَرِين، يتولَّدُ عندكَ اندِفاعٌ إلى عَيشِ الفضائل. إلاّ أنَّ أشواكَ الوَساوِسِ تَنبُتُ حولَ زَهرةِ الفضائلِ في نفسِكَ وتَخنقُها، فتَذبُلُ سريعًا وتيبَس.
       هذا يَعني أنَّكَ لستَ شُجاعًا. والسَّببُ أنَّ محبَّتَكَ ناقصة. ليسَ أولئكَ المحتاجونَ هُمُ الفُقَراء. في الحقيقةِ أنتَ الفقيرُ في المحبّة. كُلَّما أَحجَمتَ عَن فِعلِ خَيرٍ، كُنتَ أَكثَرَ عَوَزًا. وَكُلَّما أعطَيتَ وَبَذَلتَ، ازدادَ ثَراؤُكَ. لا تتَّكِلْ على القصصِ الّتي يَروِيها النّاسُ في مجالِسِهِم عَن فُلانٍ الّذي جَمعَ ثَروةً، ثُمَّ أنفقَها على الآخَرِين، وها هوَ الآنَ قدِ افتقر. لا تُصَدِّقْ هَذْرَ النّاس، لأنَّ الشّيطانَ يَكمُنُ وَراءَ هذا النّوعِ مِنَ القِصصِ، لِكَي يُوَجِّهَ النّاسَ إلى عَدَمِ المَحَبّة. وإذا فتَّشتَ وحقَّقتَ في الأمر، وجدتَ أنَّ الشّخصَ الّذي يتكلّمونَ عنه لَم يَفتَقِرْ لأنّه أحبّ، بَلِ افتقَرَ لأنَّه أهرقَ أموالَهُ في سبيلِ الأمجادِ الباطلة، والتّبجُّحِ الفارغ.. أَسرفَ في بَذلِ أموالِهِ لكي يُعَظِّمَ أَناه، أو لكي يُرضيَ شهواتِه. باختصار، عندما تنفقُ أموالكَ في طاعةِ الشَّيطان، الّذي يُوهِمُكَ أنّه يُريدُ سعادَتَك ومصلحتَك، سوفَ تصلُ حتمًا إلى الفقر بِنَوعَيه: المادّيّ والرُّوحيّ.
       يا أخي، كُن تِلميذًا لِلرَّبِّ يَسوعَ المسيحِ، الّذي كانَ قُدوةً لَنا في إخلاءِ الذّاتِ مِن أجلِنا نحنُ غَيرَ المستحقّين.. نحنُ الفُقَراءَ والغُرَباءَ والمُشَرَّدِينَ والضُّعَفاء. كُنْ شُجاعًا مِقدامًا على مِثالِه.. عندَ ذاك تَنالُ مكافأةً صالحةً، وتأخُذُ، في هذه الدّنيا، مائةَ ضِعفٍ، وَفي الآتِيَةِ حياةً أَبَدِيّة. آمين.