الشُّغْلُ الشّاغِل

        لقد كانَ هَمُّ الرَّبِّ، عندَما أتى إلى عالَمِنا السّاقِط، أن يُخَلِّصَنا، مُصالحًا ايّانا مَعَ الآب. لذلك لم يَكُنْ لَهُ مَوضِعٌ يَسنُدُ إليهِ رَأسَه، ولذلكَ تحمَّلَ الاضطهادَ والتّعييرَ والعَذاب. ولو كان هَمُّهُ إحرازَ مَجدٍ ما، لَكانَ سَعى إلى الاستقرارِ، وتجنَّبَ كُلَّ ما يُكَدِّر.
        وَلَقد كانَ هَمُّ تَلاميذِ الرَّبِّ، بعدَما صُلِبَ وَدُفِنَ، أن يَنتَظِرُوا مَواعِيدَهُ الصّادِقة، فَتَجَمَّدَ في عُيُونِهِم الكَونُ إلاّ رُؤيا القِيامة، وَقَبَعُوا ينتطِرُونَ، لا طَعامَ يُلهِيهِم وَلا شَرابَ، وَلا أُنْسٌ وَلا سَمَر، وَلا مَصالِحُ وَلا أَرزاق... لا شَيء... لا شَيءَ سِوى الذُّهُولِ مِن أنّ ما حَدَثَ قد حَدَث! رَبُّ المَجدِ يَحْوِيهِ قَبْرٌ!! والذُّهُولِ مِمّا سَيَحدُثُ وَشِيكًا، وَقَد أَطْلَعَهُم عليه الرَّبُّ قَبلَ بضعةِ أيّام، وهو أنّه سَيَقُومُ في اليومِ الثّالث. فَلَم يَعُدْ لَدَيهِم شُغْلٌ إلاّ انتظارُ تحقيقِ الوَعد.
        أنتَ تُعطِي اهتمامَكَ لِما يَتَعَلَّقُ بِهِ قَلبُك. فَتُبَرمِجُ حَياتَكَ على مِحوَرِ هذا الأمرِ المُستَحْوِذِ على اهتمامِك.
        مِن هُنا، كانَ عَلى المسيحيِّ أن يَسأَلَ نفسَهُ هذا السُّؤال: ما هُوَ شُغلي الشّاغل؟ هَل أنا كَيَهُوذا، تَستَحْوِذُ الأَموالُ على تَفكِيرِي، فَلا أَعُودُ أَرى التَّوبَةَ والاِنسحاقَ في قُلُوبِ الخَطأةِ العائدِين؟ وَلا أَعُودُ أُبصِرُ الرَّجاءَ يَنهَمِلُ مِنَ السَّماءِ على كُلِّ كَئيبٍ وَيائس؟ وَلا أَعُودُ أَلْمَحُ بَصيصَ الأَمَلِ يَنتصِرُ على دَياجِيرِ الهَلاك؟ وَلا أَعُودُ أَلْتَقِطُ إشاراتِ الرُّوحِ القُدُسِ الكثيرةَ والواضحة؟ أَم هَل أنا كَبُطرُسَ، يَسْتَحْوِذُ حُبُّ المسيحِ على كِياني، فَأُسَمِّرُ تَفكيرِي وَفُؤادي وَمَصيرِي على خَشَبَةِ مَحَبَّتِه، فَلا أَعُودُ أُبصِرُ في الدُّنيا إلا الخَلاصَ والرَّجاء، وَلا أعُودُ أَرى في عُيُونِ النّاسِ إلاّ مَشارِيعَ قَداسَةٍ، وَوُرُودًا تَتَحَدّى الأَشواك؟
        هَل أنا كَكَهَنَةِ اليَهُودِ وَرُؤَسائِهِمِ الجاحِدِين، يُقلِقُني أَمْرُ قِيامَةِ المَسيح، فَأَنصَرِفُ إلى ابتِكارِ الحِيَلِ والدَّسائِسِ والرَّشاوى والأَباطِيلِ في سَبِيلِ إخفائِها لِئَلاّ يَذِيعَ خَبَرُها؛ أَم أنا كَتُوما، أَتَحَرَّقُ شَوقًا لِلقَضاءِ على جَحِيمِ الشَّكِّ وَالاِرتِيابِ الّذي يُكَبِّلُني، لِكَي أُطْلِقَ صَرْخَةَ قَلْبِيَ المَجْرُوحِ عِشْقًا: رَبِّي وَإلهي؟!
        ما هُوَ شُغْلي الشّاغِل؟ على المسيحيّ أن يَسألَ نفسَهُ هذا السّؤال، وعَلَيهِ أن يُحَدِّدَ الجَواب، وعند ذلكَ يستطيعُ أن يَعرِفَ نفسَهُ إذا كان يَسلُكُ الجادَّةَ الصَّحيحةَ أَمِ الخاطئة.
        لَيسَ المالُ شُغْلِيَ الشّاغِل، بَل ثَرْوَةُ الإيمانِ الّتي أَوَدُّ أن تَتَعاظَمَ في نفسي وفي مجتمعي.
        لَيسَ الجَمالُ شُغْلِيَ الشّاغِل، بَلْ جَمالُ الفَضيلةِ يَرقى بِنَفسي وَنُفُوسِ مَن حَولي إلى مُستَوى العادِمِي الأجساد.
        لَيسَ النُّفُوذُ شُغليَ الشّاغِل، بَلِ الوَداعَةُ وَنَقاوَةُ القَلْبِ، وَأَنْ يَسطَعَ مَجدُ الرَّبِّ لامِعًا في هذا العالَم.
        إذا كانَ هذا هُوَ شُغْلِيَ الشّاغِل، عندئذٍ يَدخُلُ الرَّبُّ بَيتَ نَفسي وَالأَبوابُ مُغْلَقَةٌ، وَيُحِلُّ في نفسي السَّلام، وَيُعطِيني رُوحَهُ القُدُّوس. آمين.