الدّينونة للّه

        الله، سُبحانَهُ، هو الدّيّان. وحدَهُ يحقُّ له أن يحاسبَ الإنسانَ ويدينَهُ، فَيُثِيبَهُ على الصّالحاتِ وَيُعاقِبَهُ على السَّيِّئات.
        هذهِ فكرةٌ معروفةٌ، وَمِنَ السَّهلِ الإقرارُ بِها. إلاّ أنّ تطبيقَها في سُلُوكِنا اليَوميّ ليسَ بالسُّهولةِ نفسِها. لا بل إنَّ المرءَ ينزَلِقُ في مُخالَفَتِها عن غيرِ وَعيٍ مِنه.
        لنأخُذْ على سبيلِ المثال إنسانًا يقفُ في الكنيسةِ مُصغِيًا إلى تِلاوةِ الإنجيلِ والعظةِ بِخُشُوعٍ ووقار، فإذا مَرَّتْ فكرةُ تأديبٍ أو توبيخٍ للإنسانِ على تقصيرِهِ في فضيلةٍ ما، أعجَبَتْهُ الفكرة، وَراحَ يُجِيلُها في رأسِه مُحاوِلاً أن يَجِدَ لَها تجسيدًا عملِيًّا. فأوَّلُ ما يخطُرُ بِبالِهِ جارُه أو صديقُه أو أحدُ معارِفِهِ، أو أحدُ المُصَلِّينَ في الكنيسةِ نفسِها الّتي يُصَلّي فيها. وهكذا يَرتاحُ نفسيًّا، إذ يَشعُرُ بأَنَّ الفكرةَ الّتي يُرِيدُها الرَّبُّ، والّتي تَلَقَّفَها هو عبرَ الإنجيلِ، قد وصلَتْ إليه تمامًا، واستَوعَبَها بِوُضُوحٍ وَفَرح.
        إنسانٌ كهذا وَقَعَ في فَخِّ إدانَةِ الآخَرِينَ دُونَ أن يَدري، إِذْ سَمَحَ لِنَفسِهِ بِتَصنيفِ النّاس: هذا كالعَشّار، وتلكَ كالزّانِية، وهؤلاءِ كالفرّيسِيِّينَ، وأولئكَ كَصالِبِي المسيح...إلخ. وَرُبَّ مُدافِعٍ عن هذا الموقف بِالقَولِ إنَّ هذا الإنسانَ الّذي نتحدّثُ عنه لم يَقُمْ بأَيَّةِ خطوةٍ مِن شأنِها إنزالُ العقابِ بالنّاسِ الّذينَ صَنَّفَهُم. فهو، بهذا المعنى، لم يسمحْ لنفسِهِ بأن يكونَ دَيّانًا مَكانَ الله. فَنُجِيبُ على هذا المنطقِ بِالقَول: إِنَّ الفِعلَ يَبدأُ بِقَناعةٍ داخلِيَّةٍ قد تنطلقُ إلى الخارجِ وتتجَسَّدُ فِعلاً، وقد لا. وَرَبُّنا يَسُوعُ المسيحُ طَلَبَ مِنّا أن نقتلعَ الشَّرَّ مِن جُذُورِه، وأنَّ جُذُورَهُ موجودةٌ في قُلُوبِنا.
        لذا، وانطلاقًا مِن خبرةِ آبائنا القدّيسِينَ في فَهْمِ الإنجيلِ وعَيشِه، نَقُولُ إنَّ الحَلَّ لهذهِ المشكلةِ يَكمُنُ في تطبيقِ أقوالِ الإنجيلِ على نفوسِنا. فإذا سَمِعْتَ كَلامًا تأديبيًّا أو توبيخِيًّا من الإنجيلِ أو العِظَة، فَقُلْ في نفسِكَ: هذا الكلامُ ينطبقُ عليَّ بالتَّأكيد، وعليَّ أن أبحثَ في داخلِ ذاتي عن مَكامِنِ الضّعفِ والخطيئة، لكي أنَقّيَ ذاتي من الأدران: أنا الفَرِّيسيُّ المتكبّر، وأنا العشّارُ الظّالِم، وَأنا الزّانِيةُ، وأنا أحدُ العَذارى الجاهلات، وأنا واحدٌ مِمَّنْ هَتَفُوا لبيلاطُسَ أنِ اصلِبِ المسيح...
        عليكَ أن تقولَ هذه الأشياءِ، لا قَناعةً مِنكَ بأَنَّها حاصِلَةٌ أو بَدَهِيَّة، بَلْ مُحاوَلَةً مِنكَ لاستِنهاضِ عَزيمَتِكَ إلى تَوبَةً دائمةً دَوامَ العُمر. آمين.