الحُزنُ المُفرِح
يَهرُبُ الإنسانُ مِنَ الحُزنِ هَرَبَهُ مِن عَدُوٍّ لَدُود. لذلك يَملأ فراغاتِهِ كُلَّها أو جُلَّها بِالصَّخَبِ، مِن موسيقى وَغناءٍ وَرَقصٍ وَقَهقَهَةٍ وَصُراخٍ، وَغَيرِها مِن أُمُورٍ تُوهِمُهُ بِأَنَّهُ بَعيدٌ كُلَّ البُعدِ عَنِ الحُزن، فَينتَشي نَشوةً هِيَ أَشبَهُ بِنَشوةِ المُنتَصِر.
يَبتعدُ الإنسانُ عنِ الحُزنِ ابتِعادَهُ عَن سُمٍّ مُمِيت. وهذا ما يَجعَلُهُ يَضَعُ الحُزنَ على لائحةِ التَّعاسَةِ والشَّقاءِ وَسُوءِ الحَظّ واليَأس، وغَيرِها مِن الأُمُورِ الّتي تُنَفِّرُهُ مِنَ الحياة.
وحَضارَتُنا المُعاصِرَةُ تُزَيِّنُ للإنسانِ الرّاحةَ والسَّعادَةَ وَخُلُوَّ البالِ أهدافًا للحياةِ، لا هَناءَ بِدُونِها، بَل لا مَعنى لِلحياةِ نفسِها. وَلَعَمري، ما هذا إلاّ بدايةُ الشَّرّ؛ إذ إنَّ تَركيزَ المَرْءِ على تأمينِ كافةِ الظُّروفِ المُلائمةِ لِراحتِهِ والمؤمِّنَةِ سعادتَهُ وَهناءَتَهُ، يَجعلُهُ يُعرِضُ عَن حاجاتِ الَّذِينَ حَولَهُ، وَلا يَعُودُ يَرى غَيرَ ذاتِه. وَمِن هُنا تَنشَأُ الأنانيةُ وَالأَثَرَةُ، وَالكبرياءُ، والطَّمَعُ، وَالعِدائيّة؛ لأنَّ هذهِ الأخيرةَ كَلَّها هِيَ طرائقُ الدِّفاعِ عَن تِلكِ.
أمّا الرَّبُّ يَسُوعُ المسيحُ فَلَم يَدْعُنا لِلفَرَحِ بَل لِلحُزنِ "الّذي يَؤولُ إلى فَرَحٍ" (يو 20:16). وَلَم يُرَغِّبْنا بِدُخُولِ البابِ الواسعِ أو السَّيرِ في الطَّريقِ الرَّحبة، بَل حَرَّضَنا على دُخُولِ البابِ الضَّيِّقِ وَسُلُوكِ الطَّريقِ الوَعْرة (مت 13:7-14). وكذلك عَلَّمَنا الرَّسُولُ بُولُسُ أَنَّ "الحُزنَ الّذي بِحَسَبِ مشيئةِ اللهِ يُنشئُ تَوبةً لِخَلاصٍ بِلا نَدامةٍ، وأمّا حُزنُ العالَمِ فَيُنشِئُ مَوتًا" (2كور 10:7).
ولكنْ، عَن أَيِّ حُزنٍ نَتَكَلَّم؟ لا عَنِ الحُزنِ الَّذي نَفتَعِلُهُ وَكَأَنَّهُ بَرَكَةٌ بِحَدِّ ذاتِه، فَلَيسَ هذا مَقصدَ الرَّبّ، بَلْ عَن ذلكَ الحُزْنِ الَّذي يَنتُجُ عَن تَشَبُّثِنا بالإنجيلِ فِيما العالَمُ يُقاوِمُنا لاِتِّباعِه: الحُزنِ الَّذي يَنشَأُ عَنِ التّعييرِ الَّذي يُوَجَّهُ إلَينا، أَوِ الاِحتِقار الَّذي نَلْقاه، أَوِ الاِضطِهادِ الَّذي نَتَعَرَّضُ لَه، لا لِشَيءٍ إلاّ لأَنَّنا قَرَّرْنا أن نَكُونَ أُمَناءَ لِوَصايا الإنجيل.
نحنُ لا نتكلَّمُ هُنا عَنِ الحُزنِ النّاتِجِ عَنِ الحِرمانِ مِنَ الغِنى أَوِ المَجدِ أَوِ اللذَّة، بَلْ عَنِ الحُزنِ المُبارَكِ الَّذي يَتَوَلَّدُ في النَّفْسِ إِثْرَ زَلَّةٍ ارتَكَبْناها أو تَجرِبَةٍ لَم نَعبُرْها ظافِرِين. إِنَّهُ حُزنُ التَّوبَةِ، ذلك الحُزنُ المُبارَكُ الَّذي يَصقُلُ نَفْسَ المُؤمِنِ، وَيَغْسِلُها بِدُمُوعِ الحُبِّ النّادِمِ والمُتَواضِع، وَيَرحَضُها بِتَنَهُّداتِ الرَّجاء، أَنْ: "يا رَبُّ أن تَعْلَمُ كُلَّ شَيءٍ، وَأَنتَ تَعلَمُ أَنِّي أَوَدُّكَ" (يو 17:21)؛ لذلك "اغسِلني كثيرًا مِن إِثمي وَمِن خطيئتي طَهِّرْني" (مز 2:50)، لأَنّني أَسعى جاهِدًا إلى أن تَخلُقَ فِيَّ قَلْبًا نَقِيًّا، وأن تُجَدِّدَ فِيَّ رُوحًا مُستَقيمًا (مز 10:50).
هذا الحُزنُ الإيجابِيُّ هُوَ الّذي يَمنَحُنا بَهجةَ الخَلاص، وَيَحرُثُ قُلُوبَنا لِتَكُونَ أرضًا خصبةً لِتَقَبُّلِ بِذارِ الرُّوحِ القُدُس وَنُمُوِّه.
أَفراحُ هذا العالَمِ يَعقُبُها الأَسى وَتَحُفُّ بِها القَذارة، أَمّا مَن يَفرَحُ بِالرَّبِّ، فَيَجتازُ أَوداءَ الحُزنِ بِصَبْرٍ، يَحدُوهُ نُورُ الرَّجاءِ السَّعِيدِ، وَيَستَخِفُّهُ بَهاءُ القِيامَةِ الّتي لَن تَسطَعَ إلاّ بَعدَ الصَّليب.