الحُزنُ عَنِ الكَنيسة

      لَيسَتْ كُلُّ التَّقالِيدِ المَورُوثَةِ صحيحةً، ولَيسَتْ كُلُّها شَريفة. فالمَقصُودُ بالتَّقليدِ الشَّريفِ ما عاشَتْهُ الكَنِيسَةُ، مُتَسَلِّمَةً ايّاهُ مِنَ الرَّبِّ مُباشَرَةً، وَمُحافِظَةً عَلَيهِ عَبْرَ عَيشِ الرُّسُلِ لَهُ، ثُمَّ عَبْرَ أَمانَةِ تَلامِيذِ الرُّسُلِ في نَقْلِهِ، ثُمَّ عَبْرَ كِتاباتِ الآباءِ، وَمُقَرَّراتِ المَجامِعِ المَسكُونِيّة. فَمِنَ التَّقليدِ الشَّريفِ، مَثَلاً، إِقامَةُ القَداديسِ المُتَواتِرَة، وَالمُواظَبَةُ على المُناوَلَة؛ وَمِنَ التَّقلِيدِ الشَّريفِ، أَيضًا، اتِّباعُ الحِشْمَةِ في اللِّباس والتَّصَرُّف، وَالعِفَّةِ في المَأْكَلِ وَالمَسكَن؛ وَمِنهُ أَيضًا تقديمُ الطِّفلِ إلى المعمودِيَّةِ في اليومِ الثّامنِ أوِ الأربعينَ لِمِيلادِه؛ وَمِنهُ أَيضًا التَّقَيُّدُ بِالأَصوامِ الَّتي تُحَدِّدُها الكَنيسة؛ وَالطّاعَةُ لِرِجالِ الدِّين؛ وَمِنهُ، كذلك، رَسْمُ الأَيقوناتِ وَتكريسُها واستخدامُها في المَعابدِ وفي البُيُوت...
      ولكنَّ كَثِيرًا مِنَ "التَّقاليدِ" الّتي يَتَمَسَّكُ بِها المؤمنونَ، اليوم، لا تَمُتُّ إلى التَّقليدِ الشَّريفِ بِصِلَة، وَلا هِيَ مِمّا أَوصى بِهِ أَحَدُ القِدِّيسِينَ، أَو مِمّا أَبْدَعَهُ اجتِهادُ أَحَدِ الآباء. عَنَيتُ بِذلكَ العاداتِ أَوِ الأعْرافَ الّتي يَجري علَيها بعضُ المُؤمِنِينَ، نَقْلاً عَن والدٍ أَو والدةٍ أو عَجُوزٍ مَسمُوعِ الكَلِمَةِ في بَني قَومِه؛ أَو تَأَثُّرًا، رُبَّما، بِعاداتِ جَماعاتٍ أُخرى، مِن خارِجِ الكنيسة. وَحُجَّتُهُم أَنّها "قديمة". فكأَنَّ الخطأ الّذي سارَ عَلَيهِ البَعضُ مئةَ سَنَةٍ أَو بِضْعَ مِئاتٍ مِنَ السِّنِينَ تَحَوَّلَ إلى صَوابٍ، وَباتَ تَقليدًا شَريفًا!!!
      والخَطيرُ في هذه "التَّقاليدِ" الزّائِفة أَنَّها تنتشرُ وَتُتَوارَثُ، وَتُتَناقَلُ عَبْرَ التَّداوُلِ الشَّفَوِيّ، حَتّى أَنَّها تَتَمَلَّكُ في نُفُوسِ القَومِ، وتأخُذُ مَكانَها بَدَلاً مِنَ التَّقالِيدِ الشَّريفةِ الحقيقيّة، فَتُصْبِحُ هِيَ الدِّينَ: إذا سِرْتَ عَلَيها، فَأنتَ مسيحيُّ حَقٌّ، مستقيمُ العقيدة، مَقبُولٌ في نَظَرِهِم... وَإِلاّ، فَأنتَ هُرطُوقِيٌّ، أَو.. في أَحْسَنِ الأحوال: "تمشي على المُوضَةِ الجديدة". ويقصدونَ بِذلكَ أَنَّكَ تخترعُ أشياءَ جديدةً لم تَعرِفْها الكنيسةُ مِن قَبْل.
      كَثِيرَةٌ هِيَ العاداتُ المَقصُودَةُ بِهذا الكَلام، وَمِنها، على سَبيلِ المِثالِ، لا الحَصْرِ، الامتِناعُ عَنِ ارتِيادِ الكَنِيسَةِ، حُزْنًا على فَقِيدٍ. فَتَرى المَحزُونَ، وَلا سِيَّما المَحزُونَة، أَيِ الَّتي فَقَدَتْ زَوجَها أَو شَقِيقَها أَوِ ثَكِلتِ ابَنَها أَوِ ابْنَتَها... تَحْبِسُ نَفسَها في البيت، وَوَفاءً لِذِكرى مَنْ فَقَدَتْ، تَحرِمُ نَفْسَها الصَّلَواتِ الجَماعيّةَ والقَدادِيسَ وَالخِدَمَ على أَنواعِها، بِحُجَّةِ أَنَّ الاجتماعاتِ البَشَرِيَّةَ دَلِيلُ فَرَحٍ وَابْتِهاج، وَهيَ لا تُرِيدُ أَن تُدْخِلَ شَيئًا مِن هذا إلى قَلْبِها، وَإِلاّ "ضَحِكَ" النّاسُ مِنها، وَقالُوا إِنّها قَليلةُ الوَفاءِ لِلرّاحِل. أَمّا مُدَّةُ هذا الانقِطاع، فَتَختَلِفُ مِن مِنطقةٍ إل أُخرى، فَمِنْهُم مَن يَحُدُّها بِسَنَةٍ، وَمِنهُمْ مَن يَكتفي بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَمِنْهُم مَن يَزِيدُ، وَمِنهُم مَن يُنقِص.
      أَلا إِنَّ التَّقليدَ الشَّريفَ بَراءٌ مِن كُلِّ ما يَتَفَنَّنُون وَما يَبتَدِعُون...
      أَلا إِنَّ المَسِيحَ دَعانا إلى فَرَحٍ دائمٍ، فِي عَشائِهِ، لا بَل عُرْسِهِ، عَنَيتُ الاجتِماعاتِ اللِّيتُورجِيّة، وَبِصُورَةٍ خاصَّةٍ اجتماعَ القُدّاسِ الإلهِيّ الَّذي تُتَوِّجُهُ مُناوَلَةُ جَسَدِ المَسيحِ وَدَمِهِ الكَرِيمَين. لا حُزْنَ يُلْهِينا عَن فَرَحِ المَلَكُوت. لا بَلْ إِنَّنا نَكُونُ بِأَمَسِّ الحاجةِ إلى هذا الاجتماعِ وهذهِ المُناوَلَة إذا كُنّا نُعاني مِن ضِيقٍ أَو نَمُرُّ بِحُزْنٍ أو أَيَّةِ مِحْنَةٍ كانت.
      إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَعُفَّ، فَعُفَّ عَن أَفراحِ الدُّنيا لا عن فَرَحِ المَلَكُوت...
      إِذا أَرَدْتَ أَن تَتَلَحَّفَ، فَبِبَياضِ الفَضِيلَةِ، لا بِسَوادِ الأقمِشَة...
      إِذا أَرَدْتَ أَن تَكُونَ وَفِيًّا لِمَن فَقَدْتَ، وَأَن تُعَبِّرَ عَن مَدى مَحَبَّتِكَ لَهُ وَتَأَثُّرِكَ على فَقْدِه، فَاذْهَبْ إلى القُدّاسِ الإلهِيّ، حَيثُ الكَنيسةُ، بِأَحيائِها وَأَمواتِها، مُجتَمِعَةٌ حَولَ عَرْشِ الحَمَل، تَرْفَعُ الصَّلَواتِ والتَّضَرُّعاتِ، إِلْفَ المَلائِكَةِ القِدِّيسِين. هُناكَ يَستَرِيحُ حَبِيبُكَ، وَهُناكَ أنتَ تَجِدُ تَعزِيَةً. هُناكَ تَكُونُ أنتَ قَرِيبًا مِن قَلْبِه وَمِن قَلْبِ الله.