قَساوَةُ القَلب

       مِنْ أَصْعَبِ الأُمُور، أَنْ تُخاطِبَ شَخصًا، وَيَسْمَعَكَ، وَيَسْأَلَكَ، وَيُحادِثَك، وَهو يُضْمِرُ في ذاتِهِ عَدَمَ الاقتِناعِ بِكَلِمَةٍ مِمّا تَقُول.
       أَلاّ تَكُونَ قَناعَتُهُ كَقَناعَتِك أَمرٌ عادِيٌّ ومَقبولٌ جِدًّا. ولكنْ، أَنْ يُضْمِرَ في ذاتِهِ مُسْبَقًا أَنَّكَ على خَطَأ، فهذا يُعَطِّلُ عندَهُ عمليَّةَ الاستِماع، وَيَجعَلُ مِن حَدِيثِكَ مَعَهُ -وَإِنْ طال- هَذْرًا وَإِضاعةً للوقت.
       إِنَّها قَساوَةُ القَلب. وَأَكْثَرَ ما تَبدُو بَشاعَتُها إِذا مُورِسَتْ في وَجْهِ الحَقّ. بِكَلامٍ آخَر، أَنَّ المَرْءَ إِذا مارَسَها إِزاءَ إنسانٍ كاذِبٍ أو هُرطُوقِيّ أو مُنافِقٍ، فَثَمَّةَ عُذْرٌ لِعَدَمِ الاقتِناع وَلِعَدَمِ الرَّغبةِ في الأَخذِ والرَّدّ؛ ولكنْ، لا عُذْرَ لَكَ إِذا مارَسْتَها إِزاءَ إنسانٍ بارٍّ، مِن رِجالِ الله، هَدَفُهُ مِن كَلامِهِ أَن يُرْشِدَكَ إلى طريقِ الخَلاص.
       قَساوَةُ القَلْبِ هذه تَجْعَلُ النّاسَ لا يَسْمَعُون، بالرُّغم مِن سَلامَةِ حاسَّةِ السَّمْعِ عندَهُم.. لَهُمْ آذانٌ وَلا يَسمعون. لأَنَّ المَسأَلَةَ لا تتوقّفُ عندَ عمليَّةِ السَّمْعِ وَحَسْبُ، بَلْ هِيَ أَبْعَدُ مِنْ ذلك: إِنَّها مَسْأَلَةُ التَّشَبُّثِ بِالخَطأ. أَنتَ مُخطئٌ، وَتُدرِكُ ذلك، ولَيسَتْ لَدَيكَ الرَّغبةُ في تَصحيحِ أخطائك.. وَإِذا تَوَفَّرَتِ الرَّغبةُ، ليسَ لَدَيكَ العَزْمُ الكافي.. وإِذا تَوَفَّرَ العَزْمُ لِمَرَّةٍ، أَحْبَطَكَ السُّقُوطُ والفَشَلُ في التَّصحيح، فَتَلُوذُ بِالتَّحَجُّرِ، وَتَتَوَلَّدُ لَدَيكَ القَناعَةُ بِأَنَّ التَّغَيُّرَ مُستحيل... هذا التَّحَجُّرُ هُوَ قَساوَةُ القَلبِ المَقصودة. إِنَّها لا تُولَدُ مَعَ الإنسان، بَل تَتَوَلَّدُ عِندَهُ مِنْ جَرّاءِ اسْتِسْلامِهِ لِخَطاياه.
       لِهذا السَّبَب، نَجِدُ النّاسَ في رَعايانا يَسْتَمِعُونَ إلى رُعاتِهِم يَعِظُونَهُم عَن سِرِّ الاعتِراف مِرارًا وَتَكرارًا، وَنَجِدُهم يَرتادُونَ النَّدَواتِ حولَ سِرِّ الاعتِراف، وَيَستمعونَ إلى المُحاضَرات، وَيُناقِشُون، وَيَسْأَلُونَ، وَيَتَلَقَّونَ إِجابات... لا بَلْ يُشاهِدُونَ، بِأُمِّ العَينِ أَعدادًا مِنَ النّاسِ يُقْبِلُونَ إلى سِرِّ الاعتِراف... وَبَعدَ ذلك... تَلتَقي بِأَحَدِهِم فَيَبْتَدِرُكَ بِالسُّؤال: هَلْ عِندَنا، نحنُ الأرثوذكس، سِرُّ اعتِراف؟ وَيَكُونُ السُّؤالُ، طَبعًا، استفهامًا إنكاريًّا، أَيْ إِنَّهُ بِصيغةِ الاستِفهام، شَكلاً، وَجَوابُهُ النَّفْيُ القاطع.
       وَلِهذا السَّبَبِ أَيضًا نَجِدُ أَجسادَ فَتَياتِنا تَنفِرُ مِنَ الثِّيابِ نُفُورَها مِنْ قَيدٍ خانِق، وَكَأَنَّهُنَّ لَمْ يَقْرَأْنَ الإنجيلَ، وَلَمْ يَسْمَعْنَ العِظات. فَفِي الكَنيسةِ يُحاوِلْنَ جاهِداتٍ التَّسَتُّرَ، إِلاّ أَنَّ الخِرَقَ الّتي يَمْلُكْنَها في خِزانَةِ الثِّياب لَمْ تُصَمَّمْ في الأَساسِ لِهَدَفِ السَّتْر، فَتَفشَلُ المَساعي. وَأَمّا خارِجَ الكَنيسة، فَحَدِّثْ وَلا حَرَج: التَّعَرِّي هُوَ المَبدأ.. وَكَأَنَّ الحِشْمَةَ صارَتْ عارًا على فَتاةِ اليَوم.. أو كَأَنَّ ما حَباها اللهُ مِن أُنُوثَةٍ يَجِبُ أن تُظْهِرَهُ للعِيانِ بِشَتّى الطُّرُق، لِئَلاّ يُنكِرَ النّاسُ عَلَيها أُنُوثَتَها!!!
       إِنَّها قَساوَةُ القَلب... تَجْعَلُكَ عَبْدًا لِشَهَواتِكَ، تَقُودُكَ رِياحُ الإثْمِ مُعَطِّلَةً إِرادَتَك. وَالحَلُّ يَكُونُ بِارْتِداءِ ثَوبِ التَّواضُع، وَبِمُمارَسَةِ سِرِّ الاعتِرافِ بِتَواتُرٍ. وَالمُهِمُّ في الأَمر، أَنْ تَفتَحَ قَلْبَكَ لِكَلِمَةِ الإنجيل الّتي تقرأها أَو الّتي تُتْلى عَلَيك، أوِ الّتي تُتَرجَمُ لَكَ وَعْظًا.. أن تَقبَلَها في قلبِكَ، لا في أُذُنَيكَ فَحَسْبُ.. أَنْ تُتَرْجِمَها تَطبيقًا، بِبَساطَةِ قَلْبٍ، بَعيدًا عَنِ الفَذلَكَةِ وَعَنِ التَّمَرُّد وَعَنِ الخُبث.
       إبتَعِدْ عَن قَساوَةِ القَلب، لِئَلاّ يُلْقِيَ الرَّبُّ بِذارَ المَلَكُوتِ في قَلْبِكَ فَلا يَجِدَهُ مُسْتَعِدًّا.