قِطارُ الزَّمَن
يَجري قِطارُ الزَّمَنِ بِلا تَوقّف، وَدونما حاجةٍ إلى محطّاتٍ لِلاستراحة أو التزوّد بالوقود. يتقدّم بصورةٍ مستمرّةٍ وبسرعةٍ ثابتة، لا يؤثّرُ فيها تَعاقُبُ الحضاراتِ ولا سُقوطُ المَمالِكِ أو قِيامُها. تَشِيبُ الجبالُ وَتهرَمُ البِحارُ، وتَتَغَيّرُ مَعالِمُ الأرضِ مِن جرّاء الزّلازل والفيضاناتِ والأعاصير، ولا يتغَيّرُ لَونُ القطارِ، ولا تَهمدُ حركَتُه، ولا تتناقص طاقتُه.
فأينَ أنتَ أيّها الإنسانُ مِن هذا القطار؟ هل أنتَ رقمٌ من الأرقام التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، التي يتلقّفها هذا القطار رَدحًا من الزمن لِيعود فيرميها على قارعة اللاوجود، مفسحًا مجالاً لأرقامٍ أُخرى، تليها أرقامٌ أخرى، إلى ما لا نهاية؟ أهذا هو السببُ وراءَ اهتمامِكَ بما يُسمّى "رأس السّنة"؟ هل خَوفُكَ مِن هذه الحقيقةِ المُرعِبة، هو مُبَرّر جنونِكَ في ليلةِ رأسِ السّنة؟ أَلِهذا تُلْهِبُ ظُلمةَ لَيلَتِها بما يُذهِلُ مِن ألعابٍ نارِيّةٍ، مُحاوِلاً مِن خلالِ تلألؤِها إنكارَ ظُلمةِ القبر، وَمِن خلالِ الصَّخبِ الّذي تُحدِثُه الاحتجاجَ على سُكُونِ الموت؟!!
يا لهذه السّهرات المليئةِ رُعبًا وحيرةً و... موتًا!!!
ولكن.. هَلاّ فَطِنتَ أيّها الشَّقِيُّ إلى أنَّ هذا القطارَ لا يسيرُ مِن تِلقاءِ ذاتِه، كما يَظُنُّ البعضُ مُخطِئِين؛ ولا تُسَيِّرُهُ قُوَّةٌ شرّيرةٌ، كما يَظُنُّ البعضُ الآخَرُ واهِمِين؛ بَل هُوَ تحتَ سيطرةِ الخالقِ العظيمِ الّذي "لَهُ البَحرُ وَهُوَ الّذي صَنَعَهُ، والمسكونةُ الّتي جَبَلَتْها يَداه".. ذاكَ الّذي يَعرِفُ خَلِيقَتَهُ كُلَّها، وَيُحصِيها ذَرَّةً ذَرّة.. وقد أحصى كُلَّ شعرةٍ في رأسِ كُلِّ فردٍ من أفراد الجنس البشريّ.. ذاكَ الّذي لا يَخضَعُ لِسُلطانِ الزَّمَنِ، وَلا يُخِيفُهُ مُرُورُ القطار.. ذاكَ الّذي "ألف سنةٍ في عينَيهِ كَيَومِ أمسِ الّذي عَبَر".
فتنَبَّهْ يا أخِي مِن غَفلَتِكَ، وَلا تُعِرِ اهتِمامًا فيما بَعدُ لِلفانِياتِ، ولا تَحتَفِلَنَّ بِسَنَواتٍ تنقضي كُلَّما نَفثَ القِطارُ هَباءً... بَل كُنْ مُهتَمًّا بِخالِقِ الأكوانِ والأزمنةِ، الّذي مَعَهُ العُمرُ بَرَكَةٌ لا لَعنةٌ، والتّقَدُّمُ في السِّنِّ سَلامٌ لا قَلَقٌ.. ومعَهُ.. كُلُّ الأيّامِ أيّامُ فَرَحٍ وتعييد.. والتّفاؤلُ والتمنّياتُ الطيّبةُ والتَّوقُّعاتُ الإيجابيّةُ تُغَلِّفُ كُلَّ لحظةٍ مِن لَحَظاتِ العُمرِ الّذي لا يُوصَفُ بالشَّقِيّ فيما بَعد، بَل بِالهَنِيء.
ضُعَفاءُ هذا الدّهر يَحسُبُونَ الأيّامَ والسّنين، ويأسَفُونَ على شَبابٍ مَضى، ويلجأون إلى المنجِّمينَ ليُساعدُوهم في توقُّعِ ما سيأتي، خَوفًا من غَدْرِ الزّمان..
أمّا أبناءُ الخَلاصِ فَأقوياء، ولا يَأسَفُونَ على سَعادَةٍ فاتَتْ أو غِنًى أدبَر، أو شَبابٍ وَلّى؛ ولا يُضِيعُونَ الوَقتَ في الإصغاءِ إلى هَذْرِ المُنَجِّمِين.. لِماذا؟ لأنّهُم يُؤمنونَ عَن يَقِينٍ بالرَّبِّ الّذي يَرعاهُمْ، فَيُبَلْسِمُ جِراحَ ماضِيهِم، وَيُبارِكُ حاضِرَهُم، ويَحرُسُهُم في كُلِّ لَحظَةٍ، فَيَسهَرُ على نُفُوسِهِم فيما هُم غافِلُون... مَعَهُ لا يَخافُونَ مِمّا سَيأتي؛ لأنَّ حُضُورَهُ يَجعَلُ المستحيلَ مُمكِنًا، والفَقرَ غِنًى، والألَمَ فَرَحًا يَسمُو فَوقَ آلام هذا العالَم. آمين.