الصلاةُ من خلال الترتيل

سأطرحُ أمامَكُم ثلاثةَ تساؤلات، وأحاولُ الإجابةَ عنها بإيجاز: 1) هل نصلّي ونحن نرتّل؟ 2) هل الأنغامُ الموسيقيّةُ التي تغلّفُ النصوصَ الصلاتيّةَ عنصرٌ مُساعدٌ للصّلاةِ أم مُعرقِلٌ لها؟ 3) ما التأثير الذي تُحدِثُهُ الصلواتُ المرتَّلةُ في نفوسِ المؤمنين؟

1) أوّلُ جوابٍ عن السّؤالِ الأوّل (هل نصلّي ونحن نرتّل؟): المطلوبُ أن نُصَلّي، ولكنّنا نَفشَلُ في ضَبطِ أنفسِنا في أجواءِ الصّلاة، سواءٌ كنّا مرتّلينَ أو خدّامًا، أو رُعاةً، أو من سائر أفراد الجماعةِ الموجودة. أن نحفظَ الذهنَ في الصّلاةِ ليس بالأمرِ السَّهل. لذلك رَتَّبَتِ الكنيسةُ الحركاتِ المتنوِّعةَ والأنماطَ المختلفةَ في الخِدَمِ الصّلاتيّة -وَمنها الترتيل بأنواعِه- بِهَدَفِ خِدمةِ أجواءِ الصلاة، وتأمينِ الأجواءِ الملائمةِ للمؤمنين لكي يَرفعوا قُلُوبَهم ويَدخلوا في حالةِ الصّلاة.

وَمِن هُنا، ينبغي لكلّ مرتّلٍ أن يراقبَ نفسَه باستمرار، لئلّا يَنحرفَ عن الهدفِ الذي وُضعَ الترتيلُ لأجلِه. بكلامٍ آخَر: عليه، مِن جهةٍ، أن يَحفظَ ذِهنَهُ في جوّ الصلاة، وَمِن جهةٍ أُخرى، أن يُرتّلَ بطريقةٍ تساعدُ المؤمنين الموجودين على حفظِ أذهانِهم في جوّها.

2) هُنا يأتي دَورُ السؤالِ الثاني (هل الأنغامُ الموسيقيّةُ التي تغلّفُ النصوصَ الصلاتيّةَ عنصرٌ مُساعدٌ للصّلاةِ أم مُعرقِلٌ لها؟): وأوّلُ نقطةٍ للجوابِ هِيَ تنويعُ الأنماطِ الذي أشرتُ إليهِ أعلاه؛ فلو كانتِ الخدمةُ كلُّها مقروءةً لأصابَنا المَلَلُ والشّرود، ولو كانت كُلُّها ترتيلًا مطوَّلاً لفقدنا التركيزَ على النّصوص، ولو كانت كلُّها ترتيلًا سريعًا لَتَعِبنا في إدراكِ المعاني. ثُمّ، مِن ناحيةٍ أُخرى، لو كانت الخدمةُ كلُّها قائمةً على الكاهن وحدَه، أو على المرتّل وحدَه، لكانت متعبةً لِمَن يُؤدّيها وَلِمَن يتلقّاها. إنّ التنوُّعَ القائمَ في هذا المزيجِ العباديّ الرّائع، مِن قراءةٍ وترتيل، وَمن بطيءٍ وسريع، وَمِن حِوارٍ بين الهيكلِ والشّعب، بالإضافةِ إلى العناصرِ المُساعِدةِ مِن زياحاتٍ وتبخيرٍ وأيقونات... إنَّ هذا التنوّعَ يُضفي حيويّةً على الخِدَم، وَيُساعدُ المؤمنينَ كثيرًا.

ولهذا السبب غالبًا ما يرتاحُ الناسُ إلى الصّلواتِ الجَماعيّةِ أكثرَ من الصّلواتِ الفَرديّة -والنّوعانِ مطلوبان.

والنقطةُ الثانيةُ للجوابِ عن هذا السؤال هي أنَّ الأنغامَ الموسيقيّةَ تَحملُ الكلمات، وتُساهِمُ في إيصالِها إلى المستمعين بتركيزٍ وَبَلاغةٍ وجمال. فالنّصوصُ لها الدرجةُ الأُولى من الأهمّيّة. وبعد ذلك، تُعطى الأهميّةُ للموسيقا، لِما لها مِن تأثيرٍ على النفسِ البشريّة. ونَصِلُ هنا إلى السّؤالِ الثالث:

3) ما التأثير الذي تُحدِثُهُ الصلواتُ المرتَّلةُ في نفوسِ المؤمنين؟ فأوّل ما نقولُه للجواب هُوَ: إنّ تأثيرَ الموسيقا قد يكونُ إيجابيًّا وقد يكونُ سلبيًّا. وَقد يَخدمُ جوَّ الصلاةِ وقد يُفسِدُه.

إلّا أنّنا عندما نَذكُرُ التأثير، لا نقصد ذلك التأثيرَ العاطفيَّ كَجَعلِ النّاسِ يضحكون أو يبكون أو يخافون... لأنّ هدفَ المُرتِّلِ يختلفُ عن هدفِ الممثِّلِ أو هدفِ الخطيب. هدفُهُ تحريكُ قَلبِهِ وقُلُوبِ سامعِيهِ نحوَ الله، بالإيمانِ والرجاءِ والمحبّة... وإثارةُ مشاعرِ التوبةِ والتواضعِ وعِرفانِ الجميل والتهليل، لا الضَّرْبُ على أوتارِ العاطفةِ البشريّة. إنَّ ترتيل النّصوصِ المقدَّسةِ مُغَلَّفةً بألحانٍ خشوعيّة، لا يُثيرُ الأهواءَ بَل يُخمِدُ ثَورَتَها.. لا يَشُدُّنا إلى الأرضِ بل إلى السَّماء، لِكي يُعطيَ المجالَ لِلقَلبِ أن يَسمُوَ نحو الإلهيّات، طارِحًا عنه كُلَّ اهتمامٍ دُنيويّ.

ولكي ينجح المرتّلُ في هذه المهمّةِ الدقيقة، عليه أن يَسلكَ شخصيًّا في حياة التقوى، مؤمنًا بمضمونِ ما يُرتِّل، وَمُحاوِلًا تطبيقَهُ في حياتِه. ثُمَّ عليه أن يعمّقَ بشكلٍ مستمرٍّ ثقافتَهُ الروحيّةَ واللُّغويّة. أمّا سِرُّ نَجاحِ المُرتِّلِ فَيَكمُن في اعتبارِ نفسِه تلميذًا يحتاجُ دائمًا إلى التعلُّم، مهما بلغَت سِنُّهُ ومهما ازدادَتْ خبرتُه؛ وألّا يتوقَّفَ عن التدرُّبِ وتحضيرِ تراتيلِ الخِدَمِ قَبلَ ارتيادِها؛ لكي يكونَ متمكِّنًا مِن نصوصِ التراتيلِ وألحانِها، فلا يخسرَ تركيزَهُ وصلاتَه.