القديمُ والجديد

       يُريدُ الله أن يُجَدِّدَنا باستمرار. وكأنّهُ في كُلِّ مَرَّةٍ يُعِيدُ خَلْقَنا مِن جديد، أو بالأحرى، يُعطينا فُرصةً جديدةً للحياة. مِن الدّورةِ اليوميّةِ للحياةِ نتعلّمُ ذلك، مِن تواتُرِ الليلِ والنّهار. أَلَيستِ الشّمسُ الّتي نراها كُلَّ يومٍ، إيذانًا بِبَدْءٍ جديدٍ للحياة؟ أَلَيسَ استِيقاظُنا صَباحِ كُلِّ يومٍ نِعمةً جديدةً، وانطلاقةً جديدة؟
       هذه العنايةُ الإلهيّةُ العظيمةُ بِنا ماذا تُعَلِّمُنا؟ وماذا تقولُ لنا؟
       إنّها تُعطِينا صَدمةً إيجابيّةً في كُلِّ مَرَّةٍ، لِتَقُولَ لَنا: يا إنسان، مثلَما نَفَضْتَ عَن جفنَيكَ كَسَلَ النَّومِ، أَلا فَانفُضْ عَنكَ كَسَلَ الشَّهوةِ الرّديئة. أُنفُضْ عنكَ نُعاسَ الرَّذائلِ الّتي تَسلُبُكَ إرادَتَكَ وَكَرامتَك. إذا كانَ اللهُ قد مَنَحَكَ فُرصةً ذهبيَّةً بأنْ تستيقظَ فَجرَ كُلِّ يَومٍ، جَسَدِيًّا، وَتكتسبَ هِمَّةً ونَشاطًا جديدَين، لِتَجديدِ حياةِ الجسد، أَفَلا تَمنَحُ نفسَكَ فُرصةً مُماثِلَةً بِأَنْ تستيقظَ رُوحِيًّا، بالوَتِيرَةِ نفسِها، وتكتسبَ عَزمًا مُبارَكًا على التَّخَلُّصِ مِن نَتانَةِ الماضي والتَّطَلُّعِ إلى إشراقَةِ الآتي؟!
       إذا كانَ الخالقُ القديرُ يُرِيكَ في الطّبيعةِ أنَّ الأزهارَ الّتي ذَوى جَمالُها تَيبَسُ ثُمَّ تَزُولُ وتُصبِحُ مِنَ الماضي، لِتُفسِحَ مَجالاً لأزهارٍ جديدةٍ تُبهِجُ العيونَ وَتُعَطِّرُ الأنفاس، أَفَلا تتنَبَّهُ إلى أنَّ ما أَحرَزْتَهُ في سالِفِ زَمانِ حَياتِكَ مِنَ الفضائلِ قد ذَوى وَيَبِسَ واندَثَر، وأنَّكَ حَيٌّ ما دامَتِ الفضيلةُ تَحيا فِيكَ مَوسِماً بَعدَ مَوسِم؟!
       التَّوبةُ لا تَكُونُ مَرَّةً واحدةً في الحياة.. كما أنَّ تَناوُلَ جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ لا يَكُونُ مَرَّةً واحدةً في الحياة.. نحنُ مَدعُوُّونَ إلى الحَياةِ بالمعنى الدّيناميكيّ للكلمة، بمعنى الخَلقِ المُتَجَدِّدِ باستمرار. خالِقُنا فَوقَ الزّمانِ، ولا يَعنِيهِ تَقادُمُ الأيّامِ والأشهُرِ والسِّنين، فَلا نستسلِمَنَّ إلى تَعَبٍ وَهَرَمٍ وَرَتابة.
       كُلَّ سَنَةٍ يُطِلُّ عَلَينا الصّومُ الكَبير.. وَكُلَّما أَطَلَّ فَرِحْنا بِهِ فَرَحَنا بِعَطِيَّةٍ إلهيّةٍ ثَمينةٍ.. عَطِيَّةِ التَّوبةِ الحبيبة.. الفُرصَةِ الذَّهَبِيَّةِ لِنستيقظَ وننطلقَ بِهِمَّةٍ رُوحِيَّةٍ جديدة، طارِحِينَ ما ذَبُلَ مِن سالِفِ أيّامِنا على هذه الأرض، وَمُتَطَلِّعِينَ إلى رَبيعٍ جديدٍ آتٍ.
       ما أَعظَمَ أعمالَكَ يا رَبُّ! كُلّها بِحِكمةٍ صَنَعتَ! ما أعظَمَ ما مَنَحتَنا مِنَ الهِباتِ والخيرات! عَلِّمْنا كيفَ نَفِرُّ مِن مستنقعِ الخُمولِ الرُّوحِيّ، دُونَ أن ننظُرَ إلى الخَلف، رافِعِينَ أنظارَنا إلى العَلاءِ، نَحوَكَ أيُّها النُّورُ البَهِيّ. آمين.