الأناشيد الدينيّة
ماهِيَّةُ الأناشيد
أَوَّلاً، أَوَدُّ أن أُعَرِّفَ بِالأناشيد التي نتكلّم عنها: إِنّها "الأغاني الروحيّة" التي أشار اليها بولس الرسول بِقوله: "مكلّمين بعضكم بعضاً بمزامير وأناشيد وأغاني روحيّة" (أف 19:5). هذا يعني أنّه لدينا، إلى جانبِ المَزامِيرِ والتّراتيلِ الطَّقسِيّة، أَغانِيُّ رُوحِيَّةٌ.
ليتورجيّاً عندنا أناشيد معروفة: طروباريات، إيذيوميلات، ستيشيرات، كاثسماطات، أراميس...، وَلِكُلٍّ مِنها مَوْضِعٌ في صَلَواتِنا ضِمْنَ الكنيسة. لكنْ، خارجَ الإطارِ اللِّيتورجِيّ، عندما نلتقي في نشاطاتٍ للطّفولة أو الشّبيبة، أو عندما نُقيمُ حَفلاتٍ أو مهرجانات أو مسرحيّاتٍ دينيّة، أو أَيَّ نَشاطٍ من النّشاطاتِ الّتي لها الصّبغة الدّينيّة، فَلَدَينا أناشيد وأغاني تُفْرِحُنا وَتُوَحِّدُنا وَتُشَجِّعُنا.
ولكي أُقَرِّبَ الصُّورةَ إلى أَذْهانِكُم أُعطيكُم مَثَلَ الأُغنيّة المعروفة، الّتي نُرَدِّدُها في رحلاتِنا، أو نَسْمَعُها في مُسَجِّلةِ السَّيّارة. فَما الَّذي يَمْنَعُ أَن تَحُلَّ الأُغنيّةُ الرُّوحِيَّةُ مَحَلَّ الأُغنيّةِ الدُّنْيَوِيّة؟
هُنا يَظْهَرُ الفَرْقُ بَينَ التَّرتيلةِ والنَّشيد. فالتَّرتيلةُ البيزنطيّةُ لا تُرافِقُها الآلاتُ، بَينما النشيد يُمكِنُ أن تُرافِقَهُ الآلات؛ لأنَّهُ، مِنَ النّاحيةِ الفَنِّيَّة، أُغنيّةٌ كسائِرِ الأغانيّ.
البعضُ يُرِيدُونَ أن يَضْفُوا على الأناشيد مسحةً خُشُوعِيّة، وكأنّها صلوات ليتورجيّة. هذا برأيي تَطَرُّف. والبعضُ الآخَرُ، يُدْخِلُونَ الأناشيدَ إلى الكنيسة ويرتّلونها أثناء المناولة أو في آخر القدّاس، أو في آخر خدمة الإكليل. وهذا برأيي غيرُ جائز. يَجِبُ أن يَبقى الفَصْلُ واضحًا بينَ النَّشيد والتّرتيلة.
ضرورةُ الأناشيد
هل النشيد ضروريّ أم لا؟ هل يمكن أن نستغني عنه، بِما أَنَّهُ لا يُعتَبَرُ ترتيلةً؟
النشيد ضروريٌّ جِدًّا... لماذا؟
المعروفُ في لاهوتِنا أنّ الإنسان كائن مرتّل ومسبّح، كائن هيمنولوجيّ. نحن البشر، بطبيعتِنا، لا نستطيع أن نعيش بدون ترنيم. الموسيقى تنعشنا وتغنينا روحيّاً، لغة مزروعة فينا. وعندما تلتقي مجموعةٌ من البشر متآلفةٌ وَتُغَنِّي أغانيَها المشتركة، يزيد جوّ الأُلفة بين أعضائها. مثلاً: إذا كنّا نحن أعضاء جوقة واحدة ولدينا نشيد للجوقة، فَكلّما أنشدناه نشعر بوحدتِنا تَقوى أكثر فأكثر. وكذلك الأمرُ فيما يتعلّق بِأعضاء نادٍ معيّن، عندما ينشدون نشيد النادي يشعرونَ بالفخر، وَبِنوع من الرابطة التي تجمعهم، بالإضافة إلى عدّة فوائد نفسيّة أخرى.
بشكل عام الانشاد الجماعيّ مُغَذٍّ رُوحِيّاً لكلّ فرد من أفراد الجماعة.
وَالنشيد ضروريّ جداً لأنّ النغم خيرُ مُساعِدٍ للذاكرة. مثلٌ بسيط كلّنا نمرّ به إذا أَرَدْنا أَن نتذكر كلمات أغنيّة معيّنة نعرفها جيداً نرى أننا لا نتمكّنُ مِن تَذَكُّرِ الكَلِماتِ ما لَمْ نَتَذَكَّرِ اللحنَ أَوَّلاً. نَعَمْ، اللحن يذكّرنا بالكلمات، وهذا ليس مِنْ قَبِيلِ الصدفة، وَلَيسَ خُبرةً شَخْصِيَّةً لِواحِدٍ مِنّا دُونَ الآخَرين، بَل هُوَ مِنْ طَبيعَتِنا البشريّة.
فإذا كانَ اللحن مُهِمًّا وَمُساعِدًا، فَلِمَ نستغني عنه؟ يجب أن تُرافقنا الموسيقى في كلّ حياتنا.
تاريخُ الأناشيد
لا شَكَّ في أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الأناشيدِ الدِّينِيَّةِ رافَقَ الكَنِيسَةَ في تاريخِها الطَّويل، في كُلِّ صُقْعٍ مِنَ الأصقاع. وَكُلُّ كَنِيسةٍ مَحَلِّيَّةٍ تحتفظُ بأناشيدِها الخاصّة، بِلُغَتِها المَحَلِّيَّة، وَبِأجوائِها الموسيقيّةِ الخاصّة.
كَثِيرٌ مِن هذه الأناشيدِ اندَثَرَ، بسبَبِ عدمِ وُجودِ تَسجيلات في تلكَ الأيّام؛ والبعضُ مِنها اتَّخَذَ مَعَ الوقتِ أهَمِّيَّةً جعلَتِ الآباءَ يُدرِجُونَهُ ضِمنَ الكُتُبِ الطَّقسيّة. مِثالُ ذلك، في القُرونِ الأُولى، نشيد "يا نورًا بهيًّا" (مِنَ القرنِ الثّاني). وفي القُرونِ المتأخِّرة، نشيد "إفرحي يا بيتَ عنيا" الّذي نُنشِدُهُ ضمنَ خدمةِ الشَّعانين، ونشيد "حَبَّذا بالدّهرِ عِيدُ" الّذي نُنشِدُهُ ضِمنَ خدمةِ عيد الميلاد المَجيد.
أَمّا في منتصفِ القَرنِ المُنصرِم (القرن العشرين)، فكانَ للنَّشِيدِ الدِّينِيّ في كنيستِنا الأنطاكِيَّةِ وُجُودٌ مُمَيَّز. فقد رافقَ انطلاقةَ حركةِ الشَّبيبةِ الأرثوذكسيّة، ثُمَّ انتشَرَ وتطَوَّرَ حتّى باتَ جزءًا لا يتجزّأ من التّعليم الدِّينيّ في المدارس وفي الرّعايا والفِرَقِ الكَشْفِيَّة.
وَمِنْ الأسماءِ الّتي عُرِفَتْ بِنَظْمِ الأناشيد: المطران أبيفانيوس زائد، الأب ميشال سابا، الأب نقولا مالك، موريس الياس حدّاد، موريس ميخائيل حدّاد، نمر طراد، وهيب عودة، أليف خوري، وَضّاح المرّ، وليم صعب، فادي نعّوس، شوقي ساسين، ميلاد ساسين.
وَمِنَ الَّذينَ عُرِفُوا على صَعيدِ تلحينِ الأناشيد: الأب ميشال سابا، الأب نقولا مالك، جبرائيل سعادة، ديمتري كوتيا، ديمتري شحادة، فادي نعّوس. وتجدرُ الإشارةُ إلى الأستاذ الكبير المرحوم متري المرّ، بروتوبسالتي الكرسيّ الأنطاكيّ، الّذي كانت لهُ اليَدُ الطُّولى في نظمِ الأناشيدِ وتلحينِها، إِلاّ أَنَّ مُعظمَ أناشيدِهِ كانت وطنيّةً أو رسميّة (نشيد دير البلمند، نشيد مدرسة بكفتين...).
مضامينُ الأناشيد
ماذا تتضمن الأناشيد الدينيّة؟ ماذا يمكن أن نجد مِن أفكار في الأناشيد الدينيّة عامةً؟
في أبسط الأشكال يمكن أن تكون مجرّد صرخة فرح. بهذا المَعنى، يمكن أن يتضمّن معنًى دينيًّا مباشرًا أو حتّى غير مباشر. فهدفه فقط أن ينشّط الأولاد وَيُفرِحَهم ويجعلَهم يصفقون.
والبعضُ الآخَرُ مِن الأناشيد يمكن أن يتضمن التسبيح، فيكون كالمزامير. وبهذا المعنى، يكون النّشيدُ متضمِّنًا معانيَ دينيَّةً عامَّةً، تُؤكِّدُ على التِزامِنا بالحياةِ المسيحيّة، ومحبِّتِنا للسَّيِّد، وما يُشابه ذلك من الأفكار الدِّينيّة العامّة.
وعلى صعيدٍ أعلى مِن الصَّعيدَين المذكُورَين، يمكن أن تكونَ الأناشيدُ تعليمِيَّةً، هادِفَةً، بحيثُ يُوْصِلُ كُلُّ نشيدٍ فِكْرَةً مُعَيَّنَةً مِمّا لَهُ عَلاقةٌ بالسُّلُوكِ المسيحيّ. بهذا المعنى، يمكنُ أن يتضمّنَ النّشيدُ فكرة التوبة، مَثَلاً، أو فكرةَ المُسامَحة، أو فكرةَ محبَّةِ القريب، أو فكرةَ الصَّوم، أو أَيَّةَ فِكرةٍ مُماثِلة. وأنا شخصيًّا مَيّالٌ إلى هذا النَّوعِ مِنَ الأناشيد، لا سيّما المتضمِّنة موضوع التّوبة، لأنَّها تتناولُ الصعيد الدينيّ التطبيقيّ، فهي مشروع حياتنا كلّنا.
إِذًا، يُمْكِنُ للنّشيد الدينيّ أن يُحَرِّضَ المُؤمنينَ على "الجهاد الروحيّ"، وأن يلفت أنظارَهم إلى ما يوجد داخل كنيستهم. فَلا يَكُونُ عُنْصُرَ تَشويشٍ على الجَوِّ الطَقْسِيّ، بَلْ عُنْصُرَ دَعْمٍ وتحضير.
وعلى صعيدٍ رابع، وانطلاقًا مِنَ الفكرةِ السّابقة، يمكن أن تتناوَلَ الأناشيدُ المُناسباتِ الدِّينيّة أو سِيَرَ القدّيسين. فيتضمّن النشيد شيئًا من معاني عيد الميلاد أو الفصح أو دخول السِّيد أو الصّليب، أو سيرة قدّيس من القدّيسين... ففي النشيد الميلادي طبعاً لا أستطيع أن أضيف شيئاً إلى لاهوت الميلاد أو أي شيء على سرّ التجسّد، لكن أنا أنبِّهَهم ليلتفتوا إلى أهميّة العيد، والفرحِ الروحيّ الداخليّ للعيد، والمعاني التي يجب أن يعرفوها؛ لأنّ َفي المجتمع أغاني كثيرة عن عيد الميلاد، لا أدري إذا كانت جميعها توجّه بالشكل الصحيح. هناك أغانيُّ كثيرةٌ عن "بابا نويل" وغيرِه... هل يا ترى هذا الذي يرسخ في عقولهم، أم يجب أن أصنع شيئاً في نفس المستوى من الجمال حتّى أجعلهم يغنّون هذه الأغاني وأنزع من نفسهم التأثير التّجاريّ والتوجيهيّ الخاطئ.
بمعنى أنّه إذا كان هناك توجيه من جهة أخرى تجاريّ أو سياسيّ -وهذا موجود- فالأناشيد لها دور خطير ومهّم في تقويمِ الاعوِجاجِ الطّارِئِ على عُقُولِ الأولاد، أو حتّى على عُقولِ المُرشدِين.
وأخيراً، وعلى صعيدٍ خامس، يمكن أن تتضمن الأناشيد عقيدة دينيّة مباشرة. يمكن أن يكون هناك نشيد عنِ الثالوث، أو عن التجسد، أو عن استقامة الرأي، أو الأيقونة... إذا وجدتُ أنَ عقيدة معيّنة غيرُ واضحة في أذهان الرعيّة أو الشبيبة يمكن أن أنظّم لهم نشيدًا وأُلحِّنه، هدفه أن يشرح العقيدة ويثبتّها في الأذهان.
خِتامًا، الأناشيد الدينيّة وَسِيلةٌ فَعّالَةٌ للتَّبشيرِ والتّعليم والتّربية. إِنَّها ترفيهٌ بَريءٌ وتسليةٌ مُبارَكة.