الثّبات على الإيمان
1-الصّبر سِمَةُ المؤمن:
الـمؤمن يَصبِرُ على كُلِّ شيء، ويـتحمَّلَ، وَيُـحافظَ على إيـمانِه، انسجامًا معَ قَولِ الرَّبّ: "الّذي يَثبُتُ إلى الـمُنتَهى فهذا يَـخْلُص" (مت 22:10). فعلى أيِّ شيءٍ يجبُ أن نصبر؟
نَصبرُ على التّعبِ النّاتجِ عن الأعمالِ الـمتوجّبةِ علينا، أو النّاتجِ عن العملِ في حقلِ الرّبّ. ونصبِرُ على إهاناتِ الآخَرِينَ لَنا، وحتّى على اضطهادِهم لَنا: "نَتعَبُ عامِلِينَ بِأَيدِينا. نُشْتَمُ فَنُبارِك. نُضطَهَدُ فنَحتَمِل" (1كور 12:4).
نَصبِرُ على مَن يُوَجِّهُنا وَيُعطينا التّعليمَ القَويم: "لأنّه سَيَكُونُ وقتٌ لا يحتملونَ فيه التّعليمَ الصّحيح، بل حسبَ شهواتِهمِ الخاصّة يَجمَعُونَ لهم معلِّمينَ يُكَلِّمُونَهُم بِما يُطرِبُ آذانهم، فيَصرِفُونَ مسامعَهُم عن الحقّ وينحرفونَ إلى الخرافات. وأمّا أنتَ فَاصْحُ في كُلِّ شيء. احتَمِلِ المَشَّقّات. اعمَلْ عملَ المُبَشِّر. تَمِّمْ خِدمتَك" (2تيم 3:4-5).
نصبِرُ على مواعيدِ اللهِ الـمَرجُوّة: "وَلكِنْ إنْ كُنّا نَرجو ما لسنا ننظُرُهُ فإنّنا نتوقَّعُهُ بالصَّبر" (رو 25:8).
"اِنتَظِرِ الرَّبَّ، تَـجَلَّدْ وَلْيَتَشَدَّدْ قَلْبُكَ، اِنتَظِرِ الرَّبّ" (مز 14:26).
' الصَّبرُ مِن صِفاتِ المسيح:
"والرَّبُّ يَهدي قُلُوبَكُم إلى محبّةِ اللهِ وَصَبْرِ المسيح" (2تس 5:3).
المسيحُ قدوةٌ لنا في الصّبر: "ناظِرِينَ إلى رئيسِ الإيمانِ وَمُكَمِّلِهِ يسوع الّذي مِن أجلِ السُّرورِ المَوضُوعِ أمامَهُ احتَمَلَ الصَّليبَ مُستَهِينًا بِالخِزْيِ، فَجَلَسَ عن يمينِ عرشِ الله. فتفَكَّرُوا في الّذي احتملَ مِنَ الخطَأَةِ مُقاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثلَ هذه، لِئَلّا تَكِلُّوا وَتَخْزَوا في نُفُوسِكُم" (عب 2:12-3)؛ "... فَإِنَّ المَسيحَ أيضًا تألَّمَ لأجلِنا تارِكًا لَنا مِثالًا لِكَي تَتَّبِعُوا خُطُواتِه" (1بط 21:2).
2-الثّبات على الإيمان وسط الفساد المُستَشري:
تكاثُرُ الخطيئة وانتشارُها ينتج عنهُما انـحسارُ الـمحبّة وسائرُ الشّرور: "لِكَثْرَةِ الإثْـمِ تَبْرُدُ مَـحَبَّةُ الكَثِيرِين" (مت 12:24).
يصفُ بولسُ الرَّسُولُ ذلك قائلًا: "اِعلَمْ أنَّهُ في الأيّامِ الأخيرةِ ستأتي أزمنةٌ صعبة، لأنّ النّاسَ يكونونَ مُـحِبِّينَ لأنفُسِهِم، مـُحِبِّينَ لِلمال، مُتَعَظِّمِينَ، مُتَكَبِّرِين، شَتّامِين، غيرَ طائعِينَ لِوالِدِيهِم، ناكِرِي الـجَميل، فاسِقِين، لا رأَفةَ لَـهُم وَلا عَهْدَ، نَـمّامِين، مُتَهَوِّرِين، شَرِسِين، أعداءَ الـخَير، خائنِين، وَقِحِين، أَعْمَتْهُمُ الكِبرياء، يُفَضِّلُونَ الـمَلَذّاتِ على الله، مُتَمَسِّكِينَ بِقُشُورِ التَّقوى رافِضِينَ قُوَّتَـها... سيتقدَّمُونَ إلى أَردأَ، مُضِلِّينَ وَضالِّين" (2 تيم 1:3-4 ، 13).
إذا أرادَ المؤمنُ ألّا يسيرَ في تيّارِ الفسادِ المنتشر، وأن يعيشَ بالتَّقوى، فإنّه يـجدُ صعوبةً كبيرة، ويُسخَرُ منه، وَيُنبَذ. ولكن، عليهِ أن يَثبُتَ راسخًا في الإيمان، وأن يبقى ساهرًا على نفسِه: "أُصْحُوا وَاسهَرُوا لأنَّ إبليسَ خَصمَكُم كَأَسَدٍ زائرٍ يَجُولُ مُلتَمِسًا مَن يبتلعُه هُوَ، فَقاوِمُوهُ راسِخِينَ في الإيمان..." (1بط 8:5-9).
3- الثَّباتُ على الإيمانِ في مُواجهةِ الهرطقات:
الخطيئةُ تُلَوِّثُ الفِكرَ وَتُظلِمُ القلب، فتؤدّي إلى انحرافِ التّعليمِ واعوِجاجِه. ويرافقُها شيءٌ مِنَ الوَقاحةِ يـجعلُ الـمُنحرِفِينَ يتطاولُونَ على الكنيسةِ وآبائها ومعلِّميها، ويسخرونَ من رُوحِ التّقوى فيها، لكي ينشروا تعاليمَهم الفاسدة على أنّها هيَ الصّحيحة.
هُنا تقفُ الكنيسةُ في مواجهةٍ صعبة إزاءَ اضطهادٍ يأتيها من الدّاخل، مِن أولادِها. وإذا استفحلَ أمرُ انـحرافِهم قد تَـجِدُ نفسَها مَقُودَةً إلى حربٍ داخليّة.. صراعٍ مَريرٍ يُـمزِّقُها مِنَ الدّاخل: فَمِن جِهةٍ، تُريدُ أن تُـحافظَ على بَنِيها.. على جسدِ المسيحِ الواحد؛ وَمِن جهةٍ أُخرى، عليها أن تَـحفَظَ أمانةَ التّعليمِ والتّقليدِ الشّريف.
"اِسْـهَرُوا، اثبُتُوا في الإيـمان، كُونُوا رِجالًا، تَشَدَّدُوا" (1كور 13:16).
القدّيس باسيليوس الكبير واجه مضايقةً كبيرةً من الآريوسيّين، لا سيّما في عهد الإمبراطور الآريوسيّ "فالنس"، الّذي اضطهد الأرثوذكسيّين، وشرّد أساقفتَهم. أرسلَ وفدًا من الأساقفة والمسؤولين والوُسَطاءِ إلى باسيليوس لكي يقنعوه بالانضمام إلى الآريوسيّة، فلم يُفلح. وفي الأخير أرسلَ إليه الوالي "دومستوس"، فلم يُفلحْ في إقناعِه، فلجأ إلى التّهديد. ومِـمّا جاء في الحوار:
دومستوس: أما تـخافُ مِن سُلطَتي؟
باسيليوس: ماذا تستطيعُ أن تفعل؟ ماذا في قُدرتِكَ أن تُنزِلَ بي مِنَ العذاب؟
دومستوس: الـمُصادرة.. الإبعاد.. التّعذيب.. الـموت.
باسيليوس: الـمُصادرة لا تـهمّ مَن لا يـملكُ شيئًا، إلّا إذا شئتَ أن تُصادِرَ ثوبـيَ القديم وبعضَ الكُتُب، وهذه ثروتي كلُّها. والإبعادُ لا أكترثُ له لأنّي لا أملكُ بيتًا ولا حقلًا، وأينما كنتُ في الدّنيا فأنا في بيتي، أو بالحريّ في بيت الرّبّ، فأنا ضيفٌ في غُربتي. والتّعذيب، فإنّي شديدُ الـمرضِ إلى حَدِّ أنَّ ضربةً واحدةً كفيلةٌ بالقضاءِ عليّ، فلن أصمدَ أمام التّعذيب طويلًا.
دومستوس: لـم يَجرُؤ أحدٌ حتّى الآن على مخاطبتي بهذه الحرّيّة!
باسيليوس: يبدو أنّكَ لـم تُقابِلْ أُسقُفًا بعد. نحن الأساقفةَ قومٌ وُدَعاءُ ومُسالمون، لأنّ شريعتَنا تأمرُنا بذلك، ويجبُ علينا أن نكونَ كذلك ليسَ نحو الرّؤساءِ وحدَهم، بل نحو الجميع بدون استثناء. أمّا في سبيلِ الله، فلا نحسبُ حسابًا لشيء، لا للتّعذيب ولا للموت. لا بل إنّ التّعذيبَ يُقَوِّي عزيمتَنا. فَلْتُهَدِّدْ كما يَحلو لك، فلن تُغَيِّرَ شيئًا. ويـمكنكَ منذ الآن أن تُعلمَ الإمبراطور أنّه لا التّهديد ولا الوعيد ولا التّعذيب يستطيعُ أن يغيّرَ من مَسلكي شيئًا.
4- الثّباتُ على الإيمانِ في زَمَنِ الاضطهاد:
عندما كانَ الرَّبُّ يسوعُ طفلًا ذا أربعينَ يومًا، قدَّمَهُ يوسفُ، ومريمُ أُمُّه إلى الـهيكل، وقالَ سمعانُ الشَّيخُ لِـمريم: "ها إنَّ هذا قد وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيامِ كَثِيرِينَ في إسرائيل، وَلِعَلامَةٍ تُقاوَمُ" (لو 34:2).
وقالَ الرَّبُّ لِتَلاميذِه: "ستأتي ساعةٌ يَظُنُّ فيها كُلُّ مَن يَقتلُكُم أنّهُ يُقَدِّمُ خِدمةً لله" (يو 2:16).
لقد اضطُهِدَ الـمسيحيّونَ مُنذُ البَدء. وأوّلُ المضطهدِين هُمَ اليهود، الّذِينَ قتلوا الـمسيح، وراحوا يُلاحِقُونَ أتباعَهُ حيثُما وَجَدُوهُم، وألْـحَقُوا بِـهِمِ الأذى، وحَرَّضُوا الـحُكّامَ عليهِم بالاتِّـهاماتِ الباطلةِ وشَهاداتِ الزُّور، فكانُوا عُمَلاءَ الشَّيطانِ بامتياز، لأنَّـهُم قاوَمُوا الـحَقَّ، و"لا عُذْرَ لَـهُم في خطيئتِهم"، على حَدِّ تعبيرِ الرَّبّ (يو 22:15). وَهُم يَقِفُونَ وَراءَ مُعظَمِ حَـمَلاتِ القَتْلِ الـجَماعِيّ الّتي ارتُكِبَتْ بِـحَقِّ الـمَسيحيّينَ عبرَ العُصُور.
الأباطرةُ والـحُكّامُ الوثنيّونَ أيضًا اضطهدوا الـمسيحيّينَ لأنّهـم رفضوا تقديـمَ العبادةِ لِلأوثان، رُغمَ طاعتِهم لِسائرِ القوانين.
والـمُسلِمُونَ اضطَهَدُوا ويَضطهِدُونَ الـمسيحيّينَ وغيرَ الـمسيحيِّين، لأنّـهُم فَوَّضُوا أنفُسَهُم أمرَ الدِّفاعِ عن حَقِّ الله على هذه الأرض، وما في حَوزَتِـهِم "مُنْزَلٌ"، وما أدراكَ ما الـمُنزَل!!! وَكُلُّ ما لا يَنسجمُ مَعَ ما في حَوزَتِـهِم هُوَ باطِلٌ، وَهُوَ كُفْرٌ ما بَعدَهُ كُفْر. والأَهَمُّ مِن كُلِّ ذلك، هُوَ أنَّـهَم قَرَّرُوا أنَّ العِلاجَ لا يَكُونُ إلّا بالإبادة. فَكُلُّ مَن لا يَقُولُ قَولَكَ امْـحُهُ مِنَ الوُجُود!!!
ولكنَّ الرَّبَّ أَوصانا بِعَدَمِ الـخَوف: "لا تَـخافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقتُلُونَ الـجَسد، وبَعدَ ذلك ليسَ لَـهُم ما يفعلون أكثر" (لو 4:12). لا بل أوصانا بِعَدَمِ القَلَق: "ضَعُوا في قُلُوبِكُم أن لا تُفَكِّرُوا مِن قَبْلُ في ما تحتَجُّونَ به، فَإنّي أُعطِيكُم فَمًا وَحِكمةً لا يقدرُ جميعُ مُناصِبِيكُم على مقاومَتِها ولا مُناقَضَتِها" (لو 14:21- 15).
5-المسيحُ يقوّينا:
الـخَطَرُ الـحَقيقِيُّ الـمُحْدِقُ بِنا لا يَـكمُنُ في الفساد، ولا في الـهرطقات، ولا في الاضطهاداتِ بِـحَدِّ ذاتِـها، بَل في ما يُـمكِنُ أن تُسَبِّبَهُ مِنِ انـحرافٍ عَنِ الإيمانِ عندَنا إذا كُنّا صِغارَ النُّفُوس، وإذا تَراخَينا وتَكاسَلْنا. أمّا إذا تَشَدَّدْنا وَسَـهِرْنا على أنفُسِنا سالِكِينَ بالطَّهارَةِ، وَمُتَمَسِّكِينَ بِـما تَسَلَّمْناهُ وتَعَلَّمناهُ باستقامة، فحينئذٍ لا شيءَ يفصِلُنا عن مـحَبَّةِ الـمسيح، لا شِدَّةٌ، ولا ضِيقٌ، وَلا اضطِهادٌ، وَلا جُوعٌ، وَلا عُرْيٌ، وَلا خَطَرٌ، وَلا سَيف (رو 35:8).
الـمُهِمُّ أن نَثبُتَ على الإيمانِ بالـمسيح. وهذا لا يُـمكِنُ بِدُونِ معونتِه، وهو القائل: "أُثبُتُوا فِــيَّ وَأنا فِيكُم، كَـما أنَّ الغُصْنَ لا يقدرُ أن يأتيَ بِثَمَرٍ مِن عندِهِ إنْ لَـمْ يَثبُتْ في الكرمة، كذلك أنتُم أيضًا إنْ لَـم تَثبُتُوا فِـيَّ... لأنَّكُم بِدُوني لا تستطيعون أن تَعمَلُوا شيئًا" (يو 4:15-5).
نَثبُتُ في الـمسيح أيضًا لأنَّهُ يُـحِبُّنا بِـهَدَفِ خَلاصِنا. ومَـحَبَّتُهُ نابعةٌ مِن خُطَّتِهِ الأزَلِيّةِ لِـخَلاصِنا، الـمَوجُودَةِ في فِكرِ اللهِ الآب: "كَما أَحَبَّنِي الآبُ كذلكَ أنا أَحبَبْتُكُم. أُثبُتُوا في مَـحَبَّتِي" (يو 9:15).
"المحبّةُ هي الحافزُ على مِثلِ هذه الحياة" (باسيليوس الكبير).
"عندما نَثبُتُ في محبّة المسيح، نصبحُ على شاكلتِه" (إيريناوس).
"الرّبُّ قادِرٌ، عندما يشاء، على إعانةِ الّذينَ يُـجاهدونَ مِن أجلِه" (مكسيموس المعترف).
"أستطيعُ كُلَّ شيءٍ بالمسيحِ الّذي يُقَوِّيني" (في 13:4)