الإيمان والأعمال
تعريف الإيمان
يُعطي بولسُ الرَّسُولُ تَعريفًا للإيمانِ بِقَولِه:
"أَمّا الإِيمانُ، فَهُوَ الثِّقَةُ بِما يُرجى، وَالإِيقانُ بِأُمُورٍ لا تُرى" (عب 1:11).
وَقَدِ امتَدَحَ الرَّبُّ يَسُوعُ المسيحُ "الَّذِينَ لَم يَرَوا وَآمَنُوا" (يو 29:20).
وَامتَدَحَ إِيمانَ قائدِ المِئَةِ الَّذي وَثِقَ مِنْ قُدْرَةِ يَسُوعَ على إِبراءِ غُلامِهِ مِنْ بَعِيد (لو 2:7-10).
وَأَشادَ بِقُوَّةِ الإِيمانِ، قائلاً إِنَّ قَلِيلاً مِنهُ يَجْعَلُكَ تَنقُلُ الجِبالَ بِكَلِمة (مت 20:17).
وَسَألَ الأَعْمَيَينِ اللَّذَينِ طَلَبا مِنهُ الرَّحمة: "هل تؤمنانِ أنِّي أَقدِرُ أن أفعلَ ذلك؟" (مت 28:9).
وَنَسْمَعُهُ يَقُولُ لِنازِفَةِ الدَّمِ: "ثِقِي يا ابْنَةُ، إِيمانُكِ أَبْرَأَكِ" (مت 20:9).
ونَراهُ يَقُولُ لِلكَنعانِيَّة: "يا امرأةُ، عَظِيمٌ إِيمانُكِ، فَلْيَكُنْ لَكِ كَما أَرَدْتِ" (مت 28:15).
الإيمان النَّظَرِيّ والإيمان العَمَليّ
إِلاّ أَنَّ الإِيمانَ نَوعان: نَظَرِيٌّ وَعَمَلِيّ
أ- الإِيمانُ النَّظَرِيُّ يُمكنُ أن يُوجَدَ في إنسانٍ، وَيُمكِنُ أن يَكُونَ قَوِيًّا جِدًّا، بِحَيثُ أَنَّ ثِقَةَ هذا الإنسانِ بِوُعُودِ اللهِ كَبيرةٌ جِدًّا، وهو مُستَعِدٌّ لِتَصدِيقِ كُلِّ الأُمُورِ عَنِ الرَّبِّ وَإِنجيلِهِ وَعَجائِبِهِ وَمَجيئِهِ الثّاني والدَّينُونة...
ولكن... هذا لا يَكفي!!!
يُمكِنُ أن تَتلوَ دُستُورَ الإِيمانِ بِنَبْرَةِ الواثِق، وأنتَ تَعني كُلَّ كَلِمَةٍ تَقُولُها
ولكن... هذا لا يكفي!!!
لماذا؟ لأَنَّ الإِيمان، بِهذا الشَّكلِ النَّظَرِيّ، موجُودٌ حتّى عندَ الشَّياطين. لاحِظْ كَيفَ ارتَعَدَتِ الشَّياطِينُ في كُورَةِ الجرجسيِّينَ مِنَ المَسيح، وكيفَ عَرَفَتْ لاهُوتَهُ، وكيفَ أَقَرَّتْ بِقُدْرَتِهِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ الدَّيّانُ الَّذي حَدَّدَ مَوعِدًا لِلدَّينُونَةِ لا أَحَدَ يَعرِفُهُ سِواه: "ما لَنا وَلَكَ يا يَسُوعُ ابنَ الله! أَجِئتَ إلى ههُنا قَبْلَ الزَّمانِ لِتُعَذِّبَنا؟" (مت 29:8).
لا، بَلْ إِنَّ إِيمانَ الشَّياطِينِ أَقوى مِنْ إِيمانِ الكَثِيرِينَ مِنّا (أَقُولُ هذا على مُستوى الإِيمانِ النَّظَرِيّ). فالإِنسانُ ما زالَ يَتَخَبَّطُ حتّى اليوم في ظُلُماتِ الشَّكِّ.. والفَلسَفاتُ البَشَرِيَّةُ ما زالَتْ تَتَصارَعُ فِيما بَينَها مُتَأَرْجِحَةً بَينَ الإِقرارِ بِوُجُودِ الخالقِ أو عَدَمِ وُجُودِه.. والَّذِينَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِه غَيرُ مُتَّفِقِينَ على الاعتِرافِ بِقُدْرَتِهِ الكاملة أو النِّسبِيّة.. وَإِذا أَقَرُّوا بِقُدْرَتِهِ الكاملة، فَهُم غَيرُ مُتَأَكِّدِينَ مِن كَونِهِ قاسيًا جَبّارًا قَهّارًا مُنتَقِمًا غَضُوبًا يتَلاعَبُ بِالنّاسِ وَيَتَسَلّى بِعَذابِهِم، أَم حَنُونًا عَطُوفًا مُحِبًّا يَفرَحُ بِخَلاصِ الإِنسانِ، وَيُعطِيهِ الفُرصَةَ تِلْوَ الفُرْصَةِ لِيَتُوبَ وَيَهْتَدِيَ إلى جادَّةِ الصّواب...
أَمّا الشَّيطان، فَلَيسَ عِندَهُ ذَرَّةٌ مِن شُكُوكِ الإِنسانِ هذه. هُوَ على يَقِينٍ تامٍّ مِنْ وُجُودِ اللهِ وَمِن قُدْرَةِ اللهِ الكاملة، وَمِنْ رَحْمَتِهِ وَرَغْبَتِهِ بِخَلاصِ الجَمِيع. هُوَ يَعْرِفُ أَنَّ اللهَ هُوَ الإِلهُ الوَحِيد، وَأَنَّ الوَثَنِيِّينَ على ضَلال. لا بَلْ هُوَ يُؤْمِنُ بِهِ إلى دَرَجَةِ الارتِعاد: "أَنتَ تُؤمِنُ أنَّ اللهَ واحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّياطِينُ أَيضًا يُؤمنونَ وَيَرْتَعِدُون" (يع19:2). إِنَّهُ يَرْتِعِدُ في حَضْرَتِهِ، فِيما نَدْخُلُ نحنُ إلى مَقادِسِهِ بِاسْتِهزاء وَعَدِمِ اكتِراث، وَنُواجِهُ جَسَدَهُ وَدَمَهُ بِجُرْأَة، وَنَدْعُوهُ "أَبانا" دُونَ أَيِّ شُعُورٍ بالخِشية. لا بَلْ إِنَّ البَعضَ مِنّا يَرفُضُ أَن يُدعى عَبْدًا لِلّه، إِذْ إِنَّ يَسُوعَ رَفَعَنا مِنْ مَرْتَبَةِ العَبِيدِ إلى مَرْتَبَةِ الأبناء، وَيَطْلُبُ مِنَ الكاهِنِ أَلاّ يَقُولَ عَنْهُ إِنَّهُ عَبْدُ اللهِ (فُلان) بَل ابنُ الله.
لَستُ هُنا في مَوقِعِ الدِّفاعِ عنِ الشَّيطان، إِلاّ أَنَّ وَقاحةَ الإنسانِ، أحيانًا، تَتَجاوَزُ وَقاحةَ الشَّيطان.
الشَّيطانُ مَعروفٌ بِعِنادِه.. وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْتَدُّ بِعِنادِه.. بِأَنَّهُ إِذا قالَ كَلِمَةً، يَبقى عَلَيها مَهما صار، وَبِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّنْ يَتَكَلَّمُونَ مَعَهُ بِشَأْنِها.. يَستطيعُ أن يَتَشَبَّتُ بِمَوقِفِهِ كَذا سَنَةً. لا بَلْ إِنَّ العِنادَ يَجْعَلُ هذا الإِنسانَ يُقاوِمُ فُرَصَ التَّوبَةِ الّتي لا تُحصى الّتي يُوَفِّرُها لَهُ الرَّبّ.
الشَّيطانُ مَعروفٌ بِكَذِبِه.. وَالإِنسانُ يَحتَمي بِالكَذِبِ لِيُنْقِذَ نَفسَهُ مِنَ المَآزِق.. والإِنسانُ يَكْذِبُ على نَفسِهِ وَعَلى الله، حِينَ يَعتَبِرُ نَفسَهُ صالحًا مُزَكًّى، فِيما شَرُورُهُ تَنْهَشُهُ مِنَ الدّاخل.
ب- كُلُّ هذا، لأَصِلَ إلى القَوْلِ إِنَّ الإِيمانَ النَّظَرِيَّ لا يَكفي.. لا يُؤَدِّي إلى الخَلاص. والمطلوبُ هُوَ الإِيمانُ العَمَلِيّ:
"لِماذا تَدْعُونَني يا رَبُّ يا رَبُّ وَلا تَفعَلُونَ ما أَقُولُه؟!" (لو 46:6)
"لَيسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي يا رَبُّ يا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّموات، بَلِ الَّذي يَعْمَلُ إِرادَةِ أَبي الَّذي في السَّموات" (مت 21:7)
وَبِهذا المَعنى يَقُولُ رَبُّنا في اليَومِ الأَخِيرِ لِلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُم مُخَلَّصِين، لأَنَّ إِيمانَهُم كانَ قَوِيًّا إلى دَرَجَةِ التَّنَبُّؤ وَإخراجِ الشَّياطِين وَصُنْعِ العَجائب:
"إِنِّي لَم أَعْرِفْكُم قَطُّ. اذْهَبُوا عَنِّي يا فاعِلِي الإِثْم" (مت 23:7)
وَيَقُولُ أَيضًا في اليَومِ الأَخِيرِ لِلَّذِينَ لَم يَقرنُوا إِيمانَهُم بِالأَعمالِ الصَّالحة:
"إِذْهَبُوا عَنِّي يا مَلاعِينُ إلى النّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلائِكَتِه" (مت 41:25)
لا بُدَّ أَن نُؤمنَ إِيمانًا حَيًّا.. إِيمانًا مُثْمِرًا.. إِيمانًا عامِلاً:
"لأَنَّهُ في المسيحِ يَسُوعَ لا الخِتانُ يَقوى على شَيءٍ وَلا القَلَفُ، بَلِ الإِيمانُ الَّذي يَعْمَلُ بِالمَحَبّة"
(غلا 8:5)
إختبار الإيمان
مِنَ السَّهْلِ أَنْ يَقُولَ إِنسانٌ: "أَنا مُؤمن". ولكنْ، ما مَدى صِحَّةِ قَولِهِ؟ عليه أَن يَختَبِرَ نفسَهُ، هَل هُوَ حَقًّا مُؤمن. لاحِظُوا كَيف يَتوجَّهُ بولسُ إلى الكورنثِيِّين: "إمتَحِنُوا أَنفُسَكُمْ هَل أَنتمْ على الإِيمان. إِخْتَبِرُوا أَنْفُسَكُمْ" (2كور 5:13) وَهوَ يَعرِفُ أنَّهُ يَكتُبُ إلى مسيحِيِّينَ سَبَقَ أن آمَنُوا واعتَمَدُوا.. يَكتُبُ إلى كَنيسة.
كَثِيرًا ما نُسِيْءُ فَهْمَ العِبارة "آمِنْ فَقَطْ " الّتي قالَها الرَّبُّ لِرَئيسِ المَجمع (مر 36:5)، وَعِبارَةَ "آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ المسيح فَتَخْلُصَ أَنتَ وَأَهلُ بَيتِكَ" الّتي قالَها بولُسُ لِسَجّانِ فيلبّي (أع 31:16).
كَلِمَةُ "إِيمان" كَبيرةٌ جِدًّا، تَشملُ الحياةَ كُلَّها، وليست مجرَّد لفظة
لو كانَ اللهُ فكرةً، لَكانَ الإيمانُ النَّظَرِيُّ كافيًا، وَلَكانَتِ الفلسفةُ هيَ المطلوبة، لا الإيمان.
* اللهُ موجودٌ في كُلِّ مكان. هل تؤمن بهذا؟ هل تؤمنُ حقًّا بأنَّهُ يَراك حيثُما كُنتَ؟ إذًا، لماذا تُخطئ؟
* اللهُ يقرأ أفكارَك. هل تؤمنُ بهذا؟ إذًا، لماذا تفكّرُ بالسُّوء؟
* قالَ رَبُّنا عن نفسِه: "أنا الطَّريقُ والحقُّ والحياة" (يو 6:14). فإنْ كُنتَ تؤمنُ بِهِ، لماذا تبتعدُ عَنِ الحَقِّ؟ لماذا تُدافعُ عَنِ الباطل؟
* قالَ رَبُّنا عن نفسِه إِنَّهُ نُور. هل تؤمنُ بأنَّهُ النُّورُ الحقيقيّ الَّذي يُنِيرُ كُلَّ إنسان؟ إذًا، لماذا تعملُ أعمالَ الظُّلمة؟
* قالَ الرَّبُّ إِنَّهُ سَيَكُونُ معَنا إلى انقِضاءِ الدَّهر. هل تؤمنُ بأنَّهُ يعملُ في الكنيسة، وبأنَّهُ يعملُ مَعَكَ، وبَأَنَّ لَهُ يَدًا في كُلِّ ما يَحْدُث؟ إذًا، لماذا تَخاف؟ لماذا لا تعرفُ السَّلامَ الدَّاخليّ؟
* هل تؤمنُ بأنَّ جَسَدَكَ هيكلٌ للرُّوحِ القُدُس؟ إذًا، لماذا تُدَنِّسُ جَسَدَك؟
* وأخيرًا، لا آخِرًا، هل تُؤمنُ حَقًّا بالأَبَدِيَّة؟ فَابدَأْ إِذًا، بِإِعدادِ نفسِكَ لهذِهِ الأَبَدِيّة. لماذا تهتمُّ بالطَّعامِ واللِّباسِ والمَلَذّاتِ والمَسَرّاتِ؟ ولماذا تجتهدُ كَثيرًا بالأشياءِ الدُّنيويّة؟ لماذا تُحِبُّ العالَمَ بهذا الشَّكل؟ أَلَمْ تَسْمَعْ كَلامَ الرَّسُولِ يَعقوبَ أَخي الرَّبّ: "إِنَّ مَحَبَّةَ العالَمِ عَداوَةٌ لِلّه، فَمَنْ شاءَ أَن يكونَ حَبِيبًا للعالَمِ، فقد صارَ عَدُوًّا للّه" (يع 4:4)
إِخْتَبِرْ نفسَكَ، هل أنتَ في الإِيمان؟! وَلا تَحزَنْ مِنَ الضِّيقاتِ الَّتي تُصِيبُكَ؛ إِذْ رُبَّما تَكُونُ هذهِ الضِّيقاتُ ااختِبارًا لإِيمانِكَ.
الإيمانُ يَظهَرُ بالمُمارَسة
عندَما نقرأُ الأصحاحَ الرّابعَ مِن الرِّسالةِ إلى أهلِ رومية، نَظُنُّ أن بولسَ الرَّسُولَ يُنكِرُ أهَمِّيَّةَ الأعمال، إذ يقولُ إِنَّ إِبراهيمَ آمنَ باللهِ فَحُسِبَ لَهُ إِيمانُهُ بِرًّا، ثُمَّ يُوضِحُ أَنَّ بعضَ النّاسِ يَحسِبُ اللهُ لَهُم بِرًّا بِدُونِ أَعمال. إِنَّ الأَعمالَ الّتي يُشِيرُ إِلَيها بُولُسُ، في هذا النَّصّ، هِيَ أَعمالُ النّامُوس، لا الأَعمالَ الصّالحة؛ كانَ يَتَوَجَّهُ بِكَلامِهِ إلى أُولئِكَ الَّذِينَ كانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الإِنسانَ لا يَصِيرُ مَسيحِيًّا بِدُونِ المُرورِ بِنامُوسِ مُوسى، وَتَطبيقِ أَحكامِه، مِنْ خِتانٍ وَغَيرِه. مُمارَساتُ النّاموسِ تلك، سَمّاها بولسُ الرَّسُول "الأَعمال". وَلذلكَ راحَ يُؤَكِّدُ أَنَّ الخَلاصَ لا يَكُونُ بِأَعمالِ النّاموس، وَأَنَّ إِبراهِيمَ أَبا الآباءِ اعتُبِرَ بارًّا إِذْ آمَنَ بالله، وَلَم يَكُنْ قَدِ اختَتَنَ بَعْدُ.
يَعقوبُ الرَّسُولُ يَشْرَحُ ذلك بِقَولِه: "أَلَمْ يُبَرَّرْ بِالأَعمالِ الصّالحةِ إبراهيمُ أَبُونا، إِذْ أَصْعَدَ إِسحقَ ابنَهُ على المَذْبَح؟ فَتَرى أَنَّ الإِيمانَ عَمِلَ مَعَ أعمالِه، وَبالأَعمالِ صارَ الإيمانُ كاملاً، وَتَمَّتِ الكِتابَةُ القائِلَةُ فَآمَنَ إبراهيمُ باللهِ فَحُسِبَ لَهُ ذلكَ بِرًّا وَدُعِيَ خَلِيلَ الله. تَرَونَ إِذًا أَنَّ الإنسانَ بالأَعمالِ يُبَرَّرُ لا بالإيمانِ وَحْدَهُ... فَإِنَّهُ كَما أَنَّ الجَسَدَ بِغَيرِ الرُّوحِ مَيِّتٌ، كذلكَ الإيمانُ بِغَيرِ الأَعمالِ مَيِّتٌ" (يع 21:2-26)