الفرح الموعود
محاضرة ألقيت في رعية كفرعقا بتاريخ 29 تشرين الثاني 2023
الفرح الموعود
*الأب نقولا مالك*
ننطلقُ من نَصٍّ مِن نُبُوءَةِ إشَعيا:
لن يُسْمَعُ بِظُلْمٍ فِي أَرْضِكِ، وَلا بِدَمارٍ أَوْ خَرابٍ داخِلَ تُخُومِكِ، وَتَدْعِينَ أَسْوارَكِ خَلاصاً، وَبَواباتِكِ تَسابِيحَ. وَلا تَعُودُ الشَّمْسُ نُوراً لَكِ فِي النَّهارِ وَلا يُشْرِقُ ضَوْءُ الْقَمَرِ عَلَيْكِ لانَّ الرَّبَّ يَكُونُ نُورَكِ الابَدِيَّ، وإلَهُكِ يَكُونُ مَجْدَكِ. وَلا تَغْرُبُ شَمْسُكِ مِنْ بَعْدُ، وَلا يَتَضاءَلُ قَمَرُكِ، لانَّ الرَّبَّ يَكُونُ نُورَكِ الابَدِيَّ، وَتَنْقَضِي أَيامُ مَناحَتِكِ. وَيَكُونُ شَعْبُكِ جَمِيعاً أَبْراراً وَيَرِثُونَ الارْضَ إِلَى الابَدِ، فَهُمْ غُصْنُ غَرْسِي وَعَمَلُ يَدَيَّ لِأَتَمَجَّدَ. وَيُضْحي أَقَلُّهُمْ أَلْفاً، وأصْغَرُهُمْ أُمَّةً قَوِيَّةً. أنا الرَّبَّ أُسْرِعُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ فِي حِينِهِ. (60: 18- 22)
إشَعيا النبيُّ هو مِن قبيلةِ يَهوذا، واسمُهُ يعني "خلاصُ الله". هو مِن أنبياء مملكة الجنوب (يَهوذا). في أيّامِه سقطَتْ مملكةُ الشّمال (إسرائيل) في يدِ تِغلات بلاسر ملكِ الأشوريّين، الذي أخذ الشعبَ أسيرًا وأجْلاهُ عن أرضِه. راحَ إشَعيا يُنذِرُ شعبَهُ في مملكةِ الجنوب ألّا يضعوا ثِقتَهم إلّا في الربّ (إنْ لم تُؤمِنُوا فلن تأمَنُوا - إش 14:9).
في نهاية السفر (الأصحاحات 60-66) يُقدِّمُ لنا إشَعيا صورةً مُبهِجةً ورائعةً عن بناءِ مدينةِ الربِّ الجديدة. والمقطعُ الذي بينَ أيدِينا هو من الأصحاح 60 الذي فيه يَصفُ النبيُّ كنيسةَ العهدِ الجديد، أورشليمَ الجديدة، أيقونةَ السَّماء. يقولُ إنّه لا يكونُ فيها ظُلمٌ ولا دَمارٌ ولا خَراب؛ لأنَّ اللهَ العادلَ فيها.
هذه المدينةُ لن تحتاجَ إلى شمسٍ أو قمرٍ لإنارتِها، لأنَّ الربَّ يكونُ نُورَها الأبدِيَّ، ولأنَّ إلهَها يكونُ مجدَها.
لماذا يقول: "تَدْعِينَ أسوارَكِ خلاصًا وأبوابَكِ تسابيح؟ لأنّهم كانوا يُطلِقونَ على أبوابِ السُّورِ أسماء (باب الوادي- باب العَين...)، ومنها أسماء قبيحة مثل "باب الدِّمْن" أي الزِّبل. أمّا أورشليمُ السماويّة فلها أسماء جديدة، يُشيرُ إليها إشَعيا بكلمتَي "خلاص" و"تسابيح". يَذكُرُ يوحنّا الحبيبُ في سِفرِ الرُّؤيا أسماءَ أساساتِ سُورِ أورشليمَ الجديدة: "وَسُورُ الْمَدِينَةِ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَسَاسًا، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الْخَرُوفِ الاثْنَيْ عَشَرَ" (رؤ 14:21).
- "الربُّ يكونُ نُورَكِ الأَبَدِيّ": "الشعبُ السالكُ في الظُّلمةِ أبصرَ نُورًا عظيمًا، والجالسونَ في بُقعةِ الموتِ وَظِلالِهِ أشرقَ عليهم نُور" (إش 2:9). والنُّور هو أوّلُ ما خلقَهُ الله. و"لديهِ يَسكُنُ النُّور" (دا 22:2)، و"الله نورٌ وليسَ فيه ظُلمةٌ البَتّة" (1يو 5:1).
- "وتنقضي أيّامُ مَناحَتِك"، يذكّرُنا بما وردَ في رؤيا يوحنّا: "هؤُلاَءِ الْمُتَسَرْبِلُونَ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ، مَنْ هُمْ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَوْا؟... هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الضِّيقَةِ الْعَظِيمَةِ، وَقَدْ غَسَّلُوا ثِيَابَهُمْ وَبَيَّضُوا ثِيَابَهُمْ فِي دَمِ الْخَرُوف. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ، وَيَخْدِمُونَهُ نَهَارًا وَلَيْلاً فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ، 17لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ" (رؤ17:7).
- "ويصيرُ أصغَرُهُم أَلْفًا، وأقَلُّهُم أُمَّةً قويّة": المقصودُ بالصَّغيرِ هُنا الإنسانُ الفَرْد، فإذا صارَ هذا الفَرْدُ عُضوًا في جسدِ المسيح صارَ يُحسَبُ "ألْفًا" أي سماوِيًّا، لأنّ رقم 1000 يُشيرُ إلى السَّماء. والمقصودُ بالحقيرِ الإنسانُ قبلَ أن يتّحدَ بالمسيح، إذْ يكونُ عُرضةً للشَّيطانِ يَلهو به وتُدمِّرُه الخطيئة، فإذا اتّحدَ هذا الإنسانُ بالمسيح، نالَ قُوَّةَ الرُّوحِ القُدُسِ الذي يُزيلُ العداوةَ بينَ الروحِ والجسد، وَيُوَحِّدُ طاقاتِ الإنسانِ نحوَ الخير.. نحوَ طريقِ الربّ.
على ضَوءِ هذه النُّبُوءة، يُمكِنُنا أن نَرى صُورةً مُسبَقةً عن كنيسةِ العهدِ الجديد، كمدينةٍ مُنيرةٍ حاملةٍ إشراقاتِ السيّدِ المسيحِ فيها؛ تجتذبُ سائرَ الأُمَمِ والشُّعوبِ؛ تُقَدِّسُ طاقاتِهم وإمكاناتِهم التي كانوا قد أساؤوا استخدامَها. يَفتَحُ الربُّ أبوابَهُ أمامَها لِيَهَبَها أكثرَ مِمّا تَطلُبُ وفوقَ ما تَسأل، يَهَبُها بِرَّهُ وَعَدلَهُ وَقُوَّتَهُ وَجَمالَهُ وَنُورَهُ، فلا يُعوِزُها شيء!