حَمل الصّليب في حياتِنا المعاصرة
1- المؤمن والزّمن:
يعيشُ الإنسانُ في هذه الـحياةِ في ضياعٍ بين ماضٍ يُثقِلُ كاهِلَهُ ومستقبلٍ يُـخِيفُه. فيلجأ إلى التّلَهّي والصَّخَب، وإلى الـمُسكِرات والـمُخَدِّرات، آمِلًا التَّخَلُّصَ مِن شقاءِ الزَّمَن. وقد يُعَبِّرُ عن هُرُوبِهِ بالسُّرعةِ في العملِ والإنـجاز. فَهَلْ هُوَ هارِبٌ مِنَ الـزَّمَنِ أَم مِنَ الأبديّة؟!
المؤمن لا يقَعُ تـحتَ ضغطِ الـخوفِ منَ الزَّمَن، لذلكَ يعيشُ حياةً روحيّةً تَشُدُّهُ إلى الأبديّة. يعيشُ في هذا الزَّمَن دُونَ أن يتعلَّقَ بِهِ أو بِشَيءٍ مِن مَتاعِ الـحياةِ الوقتيّة. لذلك، لا يَقِفُ عندَ ما فات، ولا يَـهتَمُّ لِـما هُوَ آت، بَل يـهتَمُّ بالـحاضرِ مُقَدِّمًا اِيّاهُ لِلرَّبّ، فاهِـمًا قَولَهُ: "لا تـهتمّوا لِلغَد، لأنّ الغدَ يهـتمُّ بـما لنفسه. يكفي اليومَ شرّه" (مت 34:6). أي إنّ لِكُلِّ يومٍ مِنَ الـمتاعبِ ما يكفيه.
قد تقولُ: إنَّ حاضري سيّئٌ للغاية، سأنتظر حتّى أُصلحَ حالي ثمّ أبدأ التّوبة. هذا خداعٌ من الشّيطان.
وعليه، فإنَّ حَـمْلَ الصّليب يكونُ بطاعةِ الوصيّةِ الآن، والشّهادةِ للحقِّ الآن. حَـمْلُ الصَّليبِ يَكُونُ بِاتِّـخاذِ الرَّبِّ صَديقًا بِبَساطَة، دُونَ حساباتٍ وَدُونَ تسويف.
سِرُّ القَلَقِ الّذي يَـحياهُ إنسانُ اليوم هو عدمُ تسليمِ الـحياةِ بأكملِها للرّبّ، ورفضُ الطّاعةِ والاِنقيادِ لِـــرُوحِ الله.
مِن هُنا، يُطرَحُ السُّؤال: كيف يـمكنُني أن أحـملَ صليبي وأتبعَ الـمسيح في أيّامِنا اليوم، وفي ظلِّ الظّروفِ الـمحيطة؟!
2-كُلّ الأمور تعمل معًا للخير:
يقول بولسُ الرّسول: "كُلُّ الأمورِ تعملُ معًا للخيرِ لِلَّذِينَ يُـحِبُّونَ الله" (رو 28:8). هذا لا يعني أنّ الّذِينَ يُـحِبّونَ الله لا يتعرّضُونَ للـمشاكل، ولكنّه يعني أنَّ النّتيجة تكونُ دائـمًا لِـخَيرِهِم. عندما تُواجِهُنا الـمشاكل، اللهُ إمّا أن يـمنَعَها، وإمّا أن يُـحَوِّلَـها إلى خير. النّهاية معَ الله لا بُدَّ مِن أن تكونَ خيرًا.
فَلْنَأخُذْ يُوسُفَ الصّدِّيقَ مَثَلًا: حَسَدَهُ إخوَتُهُ وَباعُوهُ كَعَبد، ووَصَلَ كَعَبدٍ إلى بيتِ فوطيفار في مصر، وأعطاهُ رَبُّنا النّجاحَ هناك. ثـمّ أتى عليه شرٌّ آخَر غيرُ شَرِّ إخوتِه، هو شرُّ امرأةِ سيِّدِه الّتي أرادَت أن يُـخطئَ معها، وإذْ رَفَضَ اتّهَمَتْهُ بالتَّحَرُّشِ بِـها فأُلْقِيَ في السِّجن. فكيف حوَّلَ اللهُ كُلَّ هذا إلى الخير؟ أعطاه موهبةَ تفسير الأحلام، فوصلَ خبرُهُ إلى فرعون، فاستفادَ منه هذا الأخير، وسلّمهُ خاتـمَهُ، وجعلَه الثّانيَ في الـمملكة.
بسببِ الشَّرِّ الّذي حدثَ لهُ مِن إخوتِه، ثـمّ من امرأةِ سيّدِه، صارَ الرّجلَ الثّانـيَ في مصر، ولولا تلك الكارثة وتلكَ التّجربة لَبَقِيَ راعيًا لِلغَنَمِ في بيت أبيه. لذلك قالَ لإخوتِه: "أنتم فعَلْتُم بِـي شَرًّا، والرَّبُّ أرادَ خَيرًا".
وَلْنَذْكُرْ قَولَ يعقوبَ الرّسول: "احسِبوهُ كلَّ فرحٍ يا إخوتي حين تقعونَ في تجاربَ متنوِّعة" (يع 2:1).
3- لماذا يَسمحُ الله بالشرّ؟
لأنّ الله خلقَ الإنسانَ حُرًّا، يَـحدثُ ظُلمٌ إذا أساءَ الإنسانُ استعمالَ حرّيّتِه. اللهُ لا يُـحِبُّ الظُّلْمَ وَلا يُريدُه. وقَولُنا إنَّ اللهَ يَسمحُ بالظُّلْمِ يَعني أنَّ الإنسانَ يَظلِمُ أخاه، واللهُ يُعطي الظّالِـمَ فرصةً لِلتّوبة، وَيُعطي الـمَظلُومَ قُوّةً لِيَحتَملَ الظُّلْمَ وَلِيُحاوِلَ تَسوِيَةَ الأمرِ مع أخيهِ الظّالِـم. السَّماحُ هو احترامُ اللهِ لِـحُرِّيَّةِ الإنسان وإرادتِه، وَإعطاؤُهُ فُرصةً لِلاستفادةِ مِن تـجاربِهِ، والتَّحَوُّلِ نـحوَ الأفضل، نـحوَ العَدلِ، والنُّضجِ، والتَّطَهُّر، والقداسة.
القداسةُ لا يَـفرضُها اللهُ عليكَ فَرضًا، بل يُريدُكَ أن تقطفَها كثَمَرةٍ مِن ثِـمارِ جهادِك.
وَاعلَمْ أنَّ الظُّلمَ لا يَدوم.. لا يستمرّ. فاللهُ يُراقبُ ويَضبُط.
وَمِن ناحيةٍ أُخرى، لا يـخفى عليكُم أنَّ الشّدائدَ الّتي تُصيبُنا هي قليلةٌ جدًّا بالنّسبةِ إلى تلكَ الّتي أبعدها الله عنّا دُونَ أن نعلم. فقليلةٌ هِيَ الإحساناتُ الّتي تَصِلُنا مِنَ الله ونَعرِفُها، وكثيرةٌ كثيرةٌ تلكَ الّتي تَصِلُنا منهُ ولا نَعرِفُها. ولـهذا السَّبَبِ ينبغي لنا ألّا نتوقّفَ عن الشُّكر.
نَقرأُ في الأصحاحِ التّاسعِ من إنـجيلِ يوحنّا، أنَّ التّلاميذَ سألُوا الرَّبَّ عن الـمَولُودِ أعمى: "مَن خَطِئَ، أَهذا أم أبَواهُ، حتّى وُلِدَ أعمى" (يو 2:9). لقد سَـمِعُوا الرَّبَّ يقولُ لِلـمُخَلَّع: ها أنتَ قد شُفِيتَ، فَلا تَعُدْ إلى الـخطيئة"، فظَنُّوا أنَّ الـخطيئةَ كانتَ سببَ الشَّلَل، وتـحَيَّرُوا في أمرِ هذا الّذي وُلِدَ أعمى، لأنّه لا يُعقَلُ أن يُـخطِئَ أحدٌ قَبْلَ أن يُولَد. وكان جوابُ الرَّبِّ أنَّ هذه الـمُصيبةَ لا علاقةَ لَـها لا بِـخطيئةِ الـمُصاب، ولا بِـخطيئةِ أبَوَيه. هُم فَكَّرُوا بالسَّبب، والرَّبُّ ركَّزَ على النّتيجة. الرَّبُّ تـهمُّه النّهايات، وهي دائمًا سعيدةٌ معه: "لِتَظهَرَ أعمالُ اللهِ فيه" (يو 3:9).
يَشرحُ الذَّهَبِيُّ الفَمِ قائلًا: "ما انتفعَ اليَهُودُ مِن عُيُونِـهِم؟ لقد استأهلوا عقابًا أشَدّ، فقد كَفَّ بَصَرُهُم حتّى بعدَ أن أبصَرُوا... والرّجلُ الّذي كان أعمى، بِسَبَبِ عَماهُ شُفِيَت بَصيرتُه. ولـمّا كانت آلامُ الـحياةِ الـحاضرةِ ليست شرورًا، هكذا لا تكونُ الأمورُ الـجيِّدةُ جيّدةً. الـخطيئةُ فقط هي الشّرّ، أمّا العمى فلَيسَ شَرًّا".
4- سيطرةُ رُوحِ الشّرّ:
يستهلُّ بولسُ الرَّسُولُ الأصحاحَ الثّالثَ مِن رسالتِه الثّانيةِ إلى تلميذِه تيموثاوس بِقَولِه: "اِعلَمْ أنَّهُ في الأيّامِ الأخيرةِ ستأتي أزمنةٌ صعبة، لأنّ النّاسَ يكونونَ مُـحِبِّينَ لأنفُسِهِم، مـُحِبِّينَ لِلمال، مُتَعَظِّمِينَ، مُتَكَبِّرِين، شَتّامِين، غيرَ طائعِينَ لِوالِدِيهِم، ناكِرِي الـجَميل، فاسِقِين، لا رأَفةَ لَـهُم وَلا عَهْدَ، نَـمّامِين، مُتَهَوِّرِين، شَرِسِين، أعداءَ الـخَير، خائنِين، وَقِحِين، أَعْمَتْهُمُ الكِبرياء، يُفَضِّلُونَ الـمَلَذّاتِ على الله، مُتَمَسِّكِينَ بِقُشُورِ التَّقوى رافِضِينَ قُوَّتَـها... سيتقدَّمُونَ إلى أَردأَ، مُضِلِّينَ وَضالِّين" (2 تيم 1:3-4 ، 13).
تنتشرُ رُوحُ الشَّرِّ في العالَـم، فإذا أرادَ الإنسانُ ألّا يُسايِرَها، وأن يعيشَ بالتَّقوى، فإنّه يُضطَهَد. إذًا، علينا، نـحنُ الـمسيحيِّينَ اليوم، ألّا نستغربَ ما يـحدث، وألّا نستسلمَ للقَلَقِ والـخَوفِ مِـمّا يَطالُنا من اضطهاداتٍ وتـهديدات. لأنَّ هذا العالَـمَ الـمَلِيءَ بالشُّرُور، والّذي اتّـخَذَ لَهُ آلِـهةً أُخرى غيرَ الله، تلكَ الّتي ذكرَها بولسُ في الـمقطع الّذي تَلَونا، لا يُـمكِنُ أن يُنتِجَ صَلاحًا، ولا يُـمكِنُ أن يُكَرِّمَ الأتقياء. لا بَلْ، من طبيعةِ الأُمورِ أنَّهُ سيضطهدُهُم.
5- أنوعُ الاضطهاد:
هُنا نُـمَيِّزُ ثلاثةَ أنواعٍ مِن الاضطهادِ الّذي يتعرّضُ لَهُ الإنسانُ الـمسيحيّ:
أ- الاضطهادُ النّابِعُ مِن داخلِ الإنسان. الـحربُ الرّوحيّة اللامنظورة الّتي يَشُنُّها علينا إنسانُنا العتيق. يعقوب الرَّسُولُ أخو الرّبّ يَقولُ إنَّ النّزاعاتِ الّتي تقومُ بينَنا هِيَ نتيجةٌ لِـحَربِنا الدّاخليّة: "مِن أينَ الـحُرُوبُ والـخُصُوماتُ بينَكُم؟ أَلَيسَتْ مِن هُنا، مِن لَذّاتِكُمُ الـمُحارِبَةِ في أعضائِكُم؟" (يع 1:4). والرّسُولُ بُولسُ يقولُ عن هذه الـحرب: "لَستُ أفعلُ الصّالِـحَ الّذي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرُّ الّذي لَستُ أُرِيدُهُ فإيّاهُ أَفعَل" (رو 19:7).
ب- الاضطهادُ الآتِـي مِنَ الـمسيحيّينَ الـمُنحَرِفِينَ عنِ التّعليمِ الصّحيح. هذه أيضًا حربٌ داخليّة، تـجري رَحاها داخلَ الـجسمِ الكَنَسِيّ. كُلُّ الأهواءِ الرّديئةِ الّتي ذكَرناها سابقًا، والنّاتـجةِ عن سَيطرةِ رُوحِ الشَّرِّ على العالَـم، تُؤدِّي إلى عمى البَصِيرَةِ عندَ بعضِ الـمُعَلِّمِينَ ورِجالِ الإكليروس وذَوي النُّفُوذ في الكنيسة، فيَبُثُّونَ تعالِيمَ غريبةً عمّا تسلَّمَتْهُ الكنيسةُ في تقليدِها الشَّريف، ناسِبِينَ إلى أنفُسِهِمِ الذّكاءَ والقُدرةَ على الابتكار، ومُتَطاوِلِينَ على آباءِ الكنيسةِ القدّيسِين.
هذا الاضطهادُ قد لا نَشعُرُ بِـخُطُورتِه، ولا نتذمَّرُ منه، إلّا أنّه هَدّامٌ، ويَفُوقُ خطورةً النَّوعَ الثّالث الآتِـيَ ذِكرُه.
ج- الاضطهادُ الآتِـي مِن غيرِ الـمَسيحِيّين، والّذي عرَفَتْهُ الكَنيسةُ مُنذُ بِدايَتِها، ولا يزالُ مستمرًّا. بدأ هذا النَّوعُ مَعَ اليَهُود، الّذينَ أرادُوا، بعدَ قَتْلِهِمِ الـمسيح، أن يَقتُلُوا كُلَّ أتباعِه، فلاحَقُوهُم حيثُما وَجَدُوهُم، وألْـحَقُوا بِـهِمِ الأذى، وحَرَّضُوا الـحُكّامَ عليهِم بالاتِّـهاماتِ الباطلةِ وشَهاداتِ الزُّور، فكانُوا عُمَلاءَ الشَّيطانِ بامتياز، لأنَّـهُم قاوَمُوا الـحَقَّ، و"لا عُذْرَ لَـهُم في خطيئتِهم"، على حَدِّ تعبيرِ الرَّبّ (يو 22:15). وَهُم يَقِفُونَ وَراءَ مُعظَمِ حَـمَلاتِ القَتْلِ الـجَماعِيّ الّتي ارتُكِبَتْ بِـحَقِّ الـمَسيحيّينَ عبرَ العُصُور.
الأباطرةُ والـحُكّامُ الوثنيّونَ أيضًا اضطهدوا الـمسيحيّينَ بسببِ طاعتهِم لِكُلِّ قوانينِ الدّولة ما عدا تلكَ الـمُتَعَلِّقةِ بتقديـمِ العبادةِ لِلأوثان.
والـمُسلِمُونَ اضطَهَدُوا ويَضطهِدُونَ الـمسيحيّينَ وغيرَ الـمسيحيِّين، لأنّـهُم فَوَّضُوا أنفُسَهُم أمرَ الدِّفاعِ عن حَقِّ الله على هذه الأرض، وما في حَوزَتِـهِم "مُنْزَلٌ"، وما أدراكَ ما الـمُنزَل!!! وَكُلُّ ما لا يَنسجمُ مَعَ ما في حَوزَتِـهِم هُوَ باطِلٌ، وَهُوَ كُفْرٌ ما بَعدَهُ كُفْر. والأَهَمُّ مِن كُلِّ ذلك، هُوَ أنَّـهَم قَرَّرُوا أنَّ العِلاجَ لا يَكُونُ إلّا بالإبادة. فَكُلُّ مَن لا يَقُولُ قَولَكَ امْـحُهُ مِنَ الوُجُود!!!
هذه الأنواعُ من الاضطهادِ يَـجمَعُها شيءٌ واحد، أنّـها مُنطَلِقَةٌ مِن رُوحِ العالَـم، والعالَـمُ يُقاوِمُ الـحَقّ، والـمسيحُ هُوَ الـحَقّ. لذلك، تنبّأَ عنه سـمعانُ الشَّيخُ فيما قالَهُ لِـمَريـمَ في اليومِ الأربعين: "ها إنَّ هذا قد وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيامِ كَثِيرِينَ في إسرائيل، وَلِعَلامَةٍ تُقاوَمُ" (لو 34:2).
6- الثّباتُ على الإيمان:
بالنّتيجة، مـهما كانَ نوعُ الصُّعوبة، وأيًّا كانَ مصدرُ الاضطهاد، على الـمسيحيِّ أن يَصبِرَ ويـتحمَّلَ، وَيُـحافظَ على إيـمانِه، انسجامًا معَ قَولِ الرَّبِّ لِتَلاميذِه، حِينَ أَخبَرَهُم عنِ الاضطهاداتِ الّتي سيَتَعَرَّضُونَ لَـها: "الّذي يَثبُتُ إلى الـمُنتَهى فهذا يَـخْلُص" (مت 22:10). وَحِينَ أَخبَرَهُم عَن نِـهايةِ الزَّمان، أنبَأَ بالـحُرُوبِ والـمَجاعاتِ والأوبئة والزَّلازل وبالضّيقِ والقَتل والبُغض والأنبياء الكَذَبة الَّذِينَ يُضِلُّونَ كَثِيرِين، ثُـمَّ قال: "وَلِكَثْرَةِ الإثْـمِ تَبْرُدُ مَـحَبَّةُ الكَثِيرِين، وَلكِنَّ الَّذِي يَثْبُتُ إلى الـمُنتَهى فهذا يَـخْلُص" (مت 12:24-13) (مر 13:13).
بِدُونِ الـمَسيحِ نـحن عقيمُونَ ولا حياةَ لَنا في أَنفُسِنا: "أُثبُتُوا فِــيَّ وَأنا فِيكُم، كَـما أنَّ الغُصْنَ لا يقدرُ أن يأتيَ بِثَمَرٍ مِن عندِهِ إنْ لَـمْ يَثبُتْ في الكرمة، كذلك أنتُم أيضًا إنْ لَـم تَثبُتُوا فِـيَّ" (يو 4:15).
نَثبُتُ في الـمسيح أيضًا لأنَّهُ يُـحِبُّنا بِـهَدَفِ خَلاصِنا. ومَـحَبَّتُهُ نابعةٌ مِن خُطَّتِهِ الأزَلِيّةِ لِـخَلاصِنا، الـمَوجُودَةِ في فِكرِ اللهِ الآب: "كَما أَحَبَّنِي الآبُ كذلكَ أنا أَحبَبْتُكُم. أُثبُتُوا في مَـحَبَّتِي" (يو 9:15). وَيُوضِحُ لَنا أنَّ الثَّباتَ في مَـحَبَّتِهِ يَكُونُ بِـحِفْظِ وَصاياه.
الثَّباتُ في الإيـمانِ مَطلُوبٌ، ويَـحتاجُ إلى سَهَرٍ، وتشديدٍ لِلنَّفْس: "اِسْـهَرُوا، اثبُتُوا في الإيـمان، كُونُوا رِجالًا، تَشَدَّدُوا" (1كور 13:16). وفي هذا الكلامِ صَدًى لِقَولِ صاحبِ الـمَزامير: "اِنتَظِرِ الرَّبَّ، تَـجَلَّدْ وَلْيَتَشَدَّدْ قَلْبُكَ، اِنتَظِرِ الرَّبّ" (مز 14:26).
الـخَطَرُ الـحَقيقِيُّ الـمُحْدِقُ بِنا لا يَـكمُنُ في الأمراضِ والضّيقاتِ بِـحَدِّ ذاتِـها، ولا في الاضطهاداتِ ولا في الـهرطقاتِ بِـحَدِّ ذاتِـها، بَل في ما يُـمكِنُ أن تُسَبِّبَهُ مِنِ انـحرافٍ عَنِ الإيمانِ عندَنا إذا كُنّا صِغارَ النُّفُوس، وإذا تَراخَينا وتَكاسَلْنا. أمّا إذا تَشَدَّدْنا وَسَـهِرْنا على أنفُسِنا سالِكِينَ بالطَّهارَةِ، وَمُتَمَسِّكِينَ بِـما تَسَلَّمْناهُ وتَعَلَّمناهُ باستقامة، فحينئذٍ لا شيءَ يفصِلُنا عن مـحَبَّةِ الـمسيح، لا شِدَّةٌ، ولا ضِيقٌ، وَلا اضطِهادٌ، وَلا جُوعٌ، وَلا عُرْيٌ، وَلا خَطَرٌ، وَلا سَيف (رو 35:8).