الموسيقا البيزنطيّة والروحانيّة الأرثوذكسيّة (2)
*إعداد الأب نقولا مالك*
جولة على الألحان الثمانية:
- تسمعون بالألحان الثمانية التي يتألّف منها كتاب المعزّي. لِكُلّ لحنٍ أسبوعٌ كامل. وكلُّ تراتيلِنا الموزَّعةِ على سائرِ كُتُبِنا الطقسيّةِ تستعمل الألحانَ الثَّمانية. فما هو اللحن؟ هو مجموعةٌ من الدَّرجات (النّغمات) الموسيقيّة التي تعطي جوًّا معيّنًا. هذا الجوّ قد يكونُ حزينًا أو فَرِحًا أو حماسيًّا أو وَقُورًا، وغير ذلك من الأجواء والأحاسيس. نغمةٌ واحدةٌ لا تُعطي إحساسًا، فإذا اجتمعت مجموعةٌ من النغمات بترتيبٍ معيَّن، نتجَ عن ذلكَ لَحنٌ. النغمةُ بالنسبةِ إلى اللحن كالحرف بالنسبة إلى الكلمة، وكالكلمة بالنسبة إلى الجملة. والموسيقيّون يستعملون عبارة "جملة موسيقيّة".
وبهذه الطريقة نستطيعُ أن نقول: اللحنُ الأوّل، اللحنُ الثاني، ...
- قبل أن أبدأ بجولتي على الألحان الثمانية، سأعطيكم بعض التعريفات الضروريّة: كلّ سلّمٍ موسيقيّ يتألّف من ثماني درجات أو نغمات. الأُولى تسمّى "القرار" والثامنة "الجواب". والجواب هو نفسُه القرار ولكن في سُلّمٍ أعلى. ويسمّى القرارُ أيضًا "درجةَ الرُّكوز"، أي الدرجة الأساسيّة التي يرتكزُ عليها اللحنُ المعيَّن، وتستقرُّ عندَها الجُملُ الموسيقيّةُ مرارًا في أثناءِ الإنشاد، وتنتهي عندَها حتمًا. النغمةُ الثانية في الأهمّيّة بعدَ القرار تُسمّى "الغَمّاز". فإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ كلّ سُلّمٍ موسيقيّ يتركّب من قسمَين، يكونُ الغمّازُ بدايةَ القسمِ الثاني من السلَّم. في البيزنطي ندعو القسمَين "ديوانَين"، وفي العربي ندعوهما "جنسَين".
- اللحن الأوّل: نغمةُ ارتكازِه (قَرارُه) "پا". يُعطي شعورًا بالفرحِ المقرونِ بالطَّرَب والجوّ الاحتفاليّ إذا كان سريعًا (إنَّ الملاكَ تفوَّهَ...)؛ وَيُشِيعُ جَوًّا من الوَقارِ إذا كان بطيئًا (إنَّ الربَّ لمّا كان آتِيًا...) دونَ أن يفقدَ جوَّ الفرحِ العارِم.
- اللحن الثاني: نغمةُ ارتكازِه "ذي"، وأحيانًا "فو". يُعطي شُعورًا بالواقعيّة، والثقةِ في إعلانِ الحقائق، وتبنّي المواقف الثابتة (يا كلمةَ اللهِ الابنَ الوحيد...)، (قد نظرنا النور الحقيقي)، (طروباريّات اللحن الرابع وطروباريّات اللحن السادس)، (معظم القناديق).
- اللحن الثالث: نغمة ارتكازِه "غا". يُعطي شعورًا بالفرحِ المَقرُونِ بالعاطفةِ الرقيقة والحنان والبراءة (لِتَفرحِ السَّماوِيّات...). ولكنّه يحتاجُ إلى مساعدةٍ من اللحن الخامس في الجُمَلِ التي تتضمّنُ معانيَ القوّةِ والفخامة (هلمّوا أيّها الشُّعوبُ جميعًا...). وقد يُحمِّلُ الملحِّنُ القديرُ هذا اللحنَ الرّقيقَ شتّى المعاني (أيّها المخلّص إنّ كلّ عضوٍ...) نرى السَّردَ والحَزمَ والتعاطُف والشَّفَقة والاستغراب.. يستعيرُ الملحّنُ في هذه القطعةِ اللحنَ الثاني في جملةٍ صغيرةٍ جدًّا (وتمديدُ الجسمِ بالصّلب)، وعندما ينتهي من السِّرد يَختُم، قبلَ الختم النهائيّ، باللحن الثالث (والجنبُ بالحربة)، ثُمّ يأتي مقطعُ الختامِ في الإنشاءِ الموسيقيّ (فيا مَن تألّمَ مِن أجلِنا...).
- اللحن الرّابع: نغمةُ ارتكازِه الشائعةُ هي "فو"، ويُوحي بالرَّصانةِ والفخامة، ويُفيدُ في التعبيرِ عن المعتقداتِ الثابتة (الآبُ سُرَّ مُرتَضِيًا...)، (إنَّ الروحَ القُدُس نُورٌ وَحَياةٌ...).
ولكنّه يتّخذُ "ذي" في المطوَّلات (الشاروبيكون والكينونيكون)، ويتّخذُ "ذي" أيضًا في وزن كاته بلايي إيوسيف (هلمّوا يا مؤمنون ننظر أين وُلدَ المسيح...) فيصيرُ أقربَ إلى اللحنِ السادس.
- اللحن الخامس: نغمةُ ارتكازِه "با" في النمطَين المعتدلِ والطويل، و "كه" في النمطِ الرشيق. في نمطِه الرشيق يُعطي جوًّا من الحيويّةِ والفرحِ السماويّ، الفرحِ الذي لا حُدودَ له، والمُفعَمِ قوّةً. فلا غرابةَ أن اعتُمِدَ لطروباريّة الفصح (المسيحُ قامَ من بينِ الأموات...). راجع أيضًا (لنسبّح نحن المؤمنين). وليس لديه حَرَجٌ من استخدامِ القسمِ السُّفليّ من "با قرار" إلى "كه" إذا اقتضى المعنى ذلك، مستعيرًا من الخامس "با" بعضَ الهدوء (أيّها النُّورُ الذي لا يَعرُوهُ مساءٌ...)
أمّا في نمطِه المعتدل والطويل، فيحتفظُ بجوِّ الفرحِ والقُوّةِ مُضيفًا إليهما فخامةً وجَلالًا، فيصبحُ لَحنًا احتفاليًّا بامتياز، ويحتضنُ أروَعَ قطعِ الذّكصا والكانين (أيّها المتردّي النور...)، (لِنُبَوِّقْ بِبُوقِ النَّشائد...)، (عندَ تمامِ الأزمنة)
- اللحن السادس: نغمةُ ارتكازِهِ الأساسيّةُ "با"، لونُه الأساسيُّ هو الحُزن (يا ربّ القوّات)، إلّا أنّ الملحِّنينَ لا يتركونَهُ على طبيعتِه، بل يرطّبونَ أجواءَه بالأنغامِ الذياتونيكيّة، وتحديدًا بِجُمَلٍ من اللحنَين الثامن والخامس، الثامنِ للرّصانةِ والفخامة، والخامس للطَّرَب والسُّرور (يا والدةَ الإلهِ أُمِّ الحياة)، (وبلغتَ رُتَبَ الملائكة)
اللحنُ السادسُ قد يستعيرُ اللحنَ الثاني، فيتّخذ قرار "فو" و"ذي" على غرارِ اللحنِ الثاني، ويعطي نفسَ إحساسِه.
- اللحن السابع: هو في الواقع ثلاثةُ ألحان: سابع "غا" وسابع "زو" إنرموني وسابع "زو" ذياتونيكي. وعندما نقول إنرموني نقصد "الرَّخيم"، وعليه يسير اللحنُ الثالث وهذان النوعان من اللحن السابع، ومقاما "كرد" و"نهوند". أمّا الذياتونيكيّ فهو السلّم الطبيعيّ الذي هو شرقيٌّ عندنا وغربيٌّ عندَ الغربيّين. الفارق بين السلّمَين الشرقيّ والغربيّ يَكمن في درجتَي "فو" و"زو"، أي "مي" و"سي"، حيُ تكونان في الشرقيّ منخفضتَين بمقدارِ رُبعِ درجة.
السابعُ الأكثرُ استعمالًا هو السابع "غا"، وهو يشتركُ مع اللحن الثالث في إضفاءِ جوّ الفرحِ والعاطفةِ الرقيقة، إلّا أنّ فيه نفحةً من الحَزمِ والفخر تميّزُه عن اللحنِ الثالث (لقد قامَ المسيحُ من بينِ الأموات)
السابع "زو" إنرموني يأخذُ رقّةَ اللحن الثالث ويعطيها مدًى تأمّليًّا رَحبًا، بسبب اتّساعِ مجالِه النَّغَمِيّ. ويشترك مع اللحن الثالث في نغمتِه الأساسيّة (غا ذي كه ذي غا = زو ني با ني زو) (ذكصولوجيا عجم عشيران).
وقبلَ أن أنتقلَ إلى السابع زو ذياتونيكي، دعوني أمُرُّ بمقام عجم كرد الذي يشترك في خصائصه سُلَّمِه مع السابع عجم عُشَيران مع فارق أنّه الأخير يستقرّ على "زو" قرار، والأوّل يستقرّ على "با" (إفرحي وهللويا)
السابع "زو" ذياتونيكي هو لحنُ الفخامةِ بامتياز، الفخامةِ المصحوبةِ بمزيجٍ من الثقةِ والقوّة والطرب. وقد يستغرب السامع أنّه يشتركُ مع اللحن الرابع في نغمتِه الأساسيّة (با ني زو = ذي غا فو) (بواجب الاستئهال)
- اللحن الثامن: نغمةُ ارتكازِه "ني"، وقد تكون مرفوعةً ثلاثَ درجاتٍ لتستقرّ على "غا"، وذلك في الطروباريّات والقناديق، وفي بعضِ الأراميس. يقتبسُ الثامن "غا" بعضًا من رِقّةِ اللحن الثالث، ويُوحي بالسَّلام والرِّضا (طروباريّة العنصرة)، ويُمكِنُهُ أن يُفيدَ السَّردَ معَ حيويّةٍ ونشاط (عندما كان التلاميذُ المجيدون).
الثامن "ني" يُتقِنُ السَّردَ الرَّصينَ للأحداثِ والوقائع (رُؤَساءُ الشُّعوبِ اجتمعوا على الربِّ وعلى مسيحِه). لا الحُزنُ من اختصاصِه، ولا رِقَّةُ المَشاعر، بل الرُّجُولةُ الرُّوحيّة (هكذا يقولُ الربُّ لليهود). ولكي نُلَوِّنَهُ بالفرحِ أو بالحُزنِ نلجأُ إلى تطعيمِه بجُمَلٍ من الألحانِ الفَرِحةِ والحزينة (يا أبراجًا... يا أزهارَ)، (التي سقطَت ... منتحبة)
التَّبايُن بين الترتيل البيزنطيّ والترتيل الغريغوري والسلافيّ والقبطي والسريانيّ:
الترتيل الغريغوري
- تعود التسمية إلى البابا غريغوريوس الأوّل (أواخر القرن السادس).
- هو الموسيقى الاحتفاليّة المعتمدة في الكنيسة الكاثوليكيّة في الغرب.
- بدأ الترتيلُ الغربيّ أحاديًّا (Monophonic) أي يعتمدُ السطرَ الموسيقيَّ الواحد؛ وابتداءً من القرن العاشر صارَ ائتلافيًّا (Homophonic)، إذ أُضيفَت نغماتٌ ائتلافيّةٌ (Harmonies) مُصاحبةٌ للسطرِ الأساسيّ؛ في القرن الثامن عشر، ومع نشوء فنّ السمفونيّات، تطوّرَ وصارَ متعدِّدَ الأصوات (Polyphonic)، أي بدلًا من السطر الموسيقيّ الواحد صار الترتيل يتألّف من أربعة أسطر بجُمَلٍ موسيقيّةٍ مختلفة، تُنشَدُ في وقتٍ واحد.
- يشترك الترتيلُ الغريغوريُّ مع الموسيقى البيزنطيّة في اعتمادِه السطر اللحنيّ الواحد (monophonic)؛ وفي اكتفائِه بالصوتِ البشريِّ دونَ آلاتٍ موسيقيّة.
- يتميّزُ بإيقاعِه البطيء الحُرّ؛ وتنقّل نغماتِه بمسافاتٍ صوتيّة صغيرة ارتفاعًا وَهُبوطًا. فلا نجدُ في الترتيل الغريغوريّ مسافة 3 أو 4 درجات بين النوطة والأخرى.
- الإنشاء الموسيقيّ الغريغوريّ موضوع بطريقةٍ تهدّئ الأعصاب، إذ إنّه يُشيعُ جوًّا من الهدوء والاسترخاء، ليساعد الإنسانَ على تهدئة انفعالاتِه والدخول في جوّ الصلاة.
الموسيقى الروسيّة
- عندما اعتنق فلاديمير أمير كييف المسيحيّة عام 988، وجعلها دين الدولة الرسميّ، اعتُمد الترتيلُ البيزنطيّ القسطنطينيّ. وبقيَ الأمرُ كذلك إلى بدايات القرن السابع عشر، في عهدِ بطرس الأكبر الذي قامَ بنهضةٍ عامّةٍ في الهندسة والفنون الجميلة على صعيد البلاد الروسيّة، ومِنها الموسيقى التي كانت قد وصلت في إيطاليا إلى المرحلةِ الائتلافيّة، وتطوّرت مع تطوّرها في الغرب إلى متعدّدة الأصوات لاحقًا.
- يساعد تعدّد الأصوات (Polyphony) على توزيع الأسطرِ الموسيقيّة على أفراد الجوق وفقًا لطبقاتِهم الصوتيّة رجالًا ونساءً.
- عام 1860 تشكّلت جماعةٌ أطلقت على نفسِها اسم "الخمسة الكبار"، حاولت تخليص الموسيقى الروسيّة من سيطرة اللون الأوروبيّ، عبر تطعيمِها بالموسيقى الفولكوريّة الروسيّة بأنواعِها المختلفة.
الموسيقى القبطيّة
- الموسيقى القبطيّة هي وريثةُ الموسيقى الفرعونيّة القديمة، بشهادة العلماء والمؤرّخين. بعض الألحان الشائعة الآن في الكنيسة المصريّة لا تزال تحمل أسماء بلادٍ اندثرت من عهدٍ بعيد، ونذكر على سبيل المثال اللحن "السِّنجاريّ" واللحن "الأتريبيّ" نسبةً إلى سنجار وأتريب البائدتَين. في العصر المسيحيّ احتفظَ الأقباطُ بالموسيقى كما هي، ووقّعوا عليها معانيَهم المسيحيّة. مثالٌ على ذلك لحن "جولجوثا" الذي يرتّله الكهنة الأقباط يوم الجمعة العظيمة وهم يدفنون صورة السيّد المسيح، هو بعينِه اللحن الله كان كهنةُ مصرَ القُدَماء في أثناء تحنيطِ الجُثّةِ ودفنِها، طبعًا مع تغيير الكلمات.
- في عهد البابا كيرلّس الرابع، في منتصف القرن التاسع عشر، كانت نهضة الموسيقى القبطيّة، فجُمِعَ التُّراث كلُّه، وأُنشئت مدرسةُ الأقباط التي كان يُعلَّمُ فيها الترتيلُ القبطيّ، واستُعينَ ببعض الأوزان اليونانيّة، مثل "إي بارثينوس سيميرون" (اليوم العذراء تلدُ الفائقَ الجوهر) و"تون سينانَرخون لوغون" (لنسبّح نحن المؤمنين) و"تو ليثو سْفراييسثيندون" (إنّ الحجر)
- تشترك مع الموسيقى البيزنطيّة في بساطة إيقاعاتها (ثنائي ورباعي، ونادرًا ثلاثي، وحُرّ أحيانًا).
- تختلف عن الموسيقى البيزنطيّة بمحدوديّة مجالاتها النغميّة، وتشترك معها في أجوائها الاحتفاليّة التي تُبرِزُ قوّةَ الفرحِ والتمجيد.
- تسمح بإدخال بعض الآلات الإيقاعيّة كالمثلّث والناقوس والصَّنج، وآلات النّفخ كالمزمار والقَرن والبُوق والنَّفير، والآلات الوتَرِيّة كالقيثارة والرّبابة.
الموسيقا السُّريانيّة المارونيّة
- مِن أقدمِ المعروفينَ بِوَضعِ الألحانِ السُّريانيّة: القدّيس أفرام السُّريانيّ، اللاهوتيّ والشاعر والموسيقيّ الذي عاش في مدينة الرَّها في القرن الرابع للميلاد. أسّسَ جوقاتٍ للترتيل غدَتْ جزءًا هامًّا من الليتورجيا وكانَ لها دورٌ عظيمٌ في مواجهةِ الهرطقاتِ الدينيّة. ولا تزالُ ألحانُه مهيمنةً على التراتيلِ السُّريانيّة والمارونيّة حتّى أيّامِنا.
- تقومُ الألحانُ السُّريانيّةُ على أوزانٍ شِعريّةٍ مضبوطة تُساعدُ المؤمنينَ على الحِفظ، ويَسهُلُ تعليمُها ونَشرُها.
- أشكالُها متنوّعة وهي كالتالي:
قولو (صوت، كلمة): قصيدة من مقطع أو أكثر، تعطي بدايتها كعنوان لها، ومقياسها ولحنها إلى القصيدة بأكملها، بالإضافة إلى المؤلفات الأخرى التي تعتبر نموذجًا لها. يشير مصطلح «ريشقولو» إلى المقطع القياسي الذي تُقاس فيه وتردد ترانيم الترانيم الأخرى.
مدروشو (درس، تعليمات): ترتيلة متنوّعة الأوزان، تتضمّن تعليمًا عقائديًّا.
سوغيتو (لحن، ترتيلة): ترتيلة شعبيّة تأخذ شكل الحوار.
باعوت (صلاة، دُعاء، طلب): ترتيلة تُقالُ بالتَّناوُب بين جوقَين
صادرو (أَمر): ترتيلة نثريّة، قد تكونُ آيةً كتابيّة
مزمورو (المزمور): ستيخونات من المزامير تتصدّرُ التراتيل
انيونو (الجواب): المقطع الثاني من الستيخون، ويكونُ عادةً مُسجَّعًا.
لحودويو (الواحد): قصيدةٌ تقالُ قبلَ التبخير
- في الموسيقى المارونية التقليدية يحتل الصوت المرتبة الأولى، وتعمل الآلات على مرافقة الصوت.